التمييز بين تفسير النصوص الدستورية وتعديلها بضوء تفسير المحكمة الاتحادية العليا لمادة حصانة النائب والحدود الرمادية بين سلطة القضاء والتشريع
الأديب صائب خليل
مناقشة منطق المحكمة الإتحادية في تفسيرها للمادة 63 من الدستور والمخصصة لحماية النائب من الإبتزاز بالملاحقة القضائية الاعتباطية. التفسير الذي قدمته المحكمة على هامش قرارها الصادر في 2021، على دعوى السيد طلال الزوبعي ضد رئيس مجلس النواب، والذي استند اليه القاضي أحمد مخلف، في إدانته للنائب هادي السلامي وحكمه عليه بالسجن وغرامة مالية، بعد دعوى وزارة التجارة ضده باستخدام وثائق غير صحيحة لإسناد ادعائه بوجود فساد في الحصة التموينية. إضافة الى ذلك ملحق بإشكالات التداخل بين الصلاحيات الفعلية للسلطة القضائية والسلطة التشريعية في المناطق الرمادية غير الواضحة الحدود بين “التفسير” الذي هو من صلاحيات السلطة القضائية، و”التعديل” الدستوري الذي هو من صلاحيات السلطة التشريعية.
ينص الدستور في المادة 63 ثانيا على:
أ ـ يتمتع عضو مجلس النواب بالحصانة عما يدلي به من اراء في اثناء دورة الانعقاد ولا يتعرض للمقاضاة امام المحاكم بشأن ذلك.
ب ـ لا يجوز القاء القبض على العضو خلال مدة الفصل التشريعي الا اذا كان متهماً بجناية، وبموافقة الاعضاء بالأغلبية المطلقة على رفع الحصانة عنه أو اذا ضبط متلبساً بالجرم المشهود في جناية.
ج ـ لا يجوز القاء القبض على العضو خارج مدة الفصل التشريعي الا اذا كان متهماً بجناية، وبموافقة رئيس مجلس النواب على رفع الحصانة عنه، أو اذا ضبط متلبساً بالجرم المشهود في جناية.
وقد أعادت المحكمة الاتحادية العليا تفسير هذه المادة ونشرت تفسيرها الجديد في بيان قرار الحكم الخاص بدعوى طلال الزوبعي أعلاه، فكتبت: (الأخطاء اللغوية كما جاءت في أصل نص المحكمة)
“أن المشرع الدستوري وضع قيد على السلطة القضائية في اتخاذ الإجراءات الجزائية بحق عضو مجلس النواب في حالة واحدة فقط وهي (عدم جواز تنفيذ مذكرة القبض على عضو مجلس النواب إلا إذا كان متهما بجريمة جناية) (…) وأن تلك الحصانة لا تشمل حالة التلبس بجريمة جناية مشهودة. أما إذا كان عضو مجلس النواب متهماً بجريمةً من جرائم الجنح (…) أو إذا كان متهما بجريمة مخالفة (…)، فبالإمكان اتخاذ الإجراءات الجزائية بحقه بدون استحصال إذن مجلس النواب إذ لا حصانة لعضو مجلس النواب عنها ذلك ان عدم ذكر المشرع الدستوري لجريمتي الجنح والمخالفات ضمن النص آنف الذكر لا يعني عدم مساءلة عضو مجلس النواب في حالة ارتكاب أياً منهما”
وهذا “التفسير” غريب! فنص المادة 63 ب يقول “لا يجوز القاء القبض على العضو.. إلا اذا كان متهما بجناية”..
واضح، وأي شخص يعرف العربية معرفة بسيطة، يعرف استعمال أداة الاستثناء “إلا”، سيفهم من العبارة أن ألقاء القبض يقتصر على حالة ارتكاب العضو لـ “جناية”. فـ “إلا” تعني ان ما جاء قبلها (من منع القبض) ينطبق على كل الحالات، عدا الاستثناء الذي يأتي بعدها (حالة اتهامه بجناية وحصول موافقة المجلس).
أما المحكمة الاتحادية فتستنتج: “ان عدم ذكر المشرع الدستوري لجريمتي الجنح والمخالفات ضمن النص آنف الذكر لا يعني عدم مساءلة عضو مجلس النواب في حالة ارتكاب أياً منهما”.
وهذا منطق غريب.. فعندما أقول: لا يعجبني من الألوان “إلا” الأزرق، فهو كاف لاستثناء جميع الألوان الأخرى من أبيض وأسود وأحمر وغيرها، من إعجابي. ولست بحاجة لتعدادها لكي اثبّت عدم إعجابي بها. فـ “إلا” تستثني من الحكم، كل ماعدا ما يليها، وهو الأزرق، أي انها تكفي وحدها لتبيان أني لست معجبا بكل ما عدا الأزرق، ولست بحاجة لتعداد ما لا يعجبني!
وبنفس الطريقة فأن عبارة “لا يجوز القاء القبض على العضو.. إلا اذا كان متهما بجناية”.. تعني انه لا يجوز القاء القبض في كل الحالات الأخرى: حالة الجنحة والمخالفة وأي نوع آخر موجود او قد يخلق مستقبلا، مادام ليس ضمن تعريف “الجناية”. وليس المشرع بحاجة الى ان يكتب قائمة بتلك الحالات، فهي كلها مشمولة بمنع القاء القبض من خلال استعمال كلمة “إلا”. إضافة لذلك، تشترط المادة لجواز القاء القبض شرطا إضافيا، هو موافقة المجلس على رفع الحصانة.. وهذا الشرط الإضافي لا يضيف أية حالة إلى حالات جواز القاء القبض، بل يقللها ويزيد حالات المنع! فمن بين كل أنواع التهم، لا يحق للقضاء القبض على النائب فيها، إلا التهم الجنائية فقط دون غيرها. ومن حالات التهم الجنائية هذه، يسمح بالقبض فقط في الحالات التي يوافق فيها مجلس النواب على رفع الحصانة.
أما منطق المحكمة الاتحادية العليا، (كما في النص) فأن عدم ذكر جريمتي الجنح والمخالفات لا يعني “عدم مساءلة” عضو مجلس النواب عنها، فهو غريب! فلو اتبعنا هذا المنطق، لكان علينا ان نقول أن عبارة “لا إله إلا الله” في القرآن، لا تنفي كون هبل واللات وعزى من الآلهة، لكونها لم تذكر في العبارة!!
كذلك نلاحظ في طريقة استعمال المحكمة الاتحادية للكلمات، يبدو تمويها متعمدا لغرض التشويش على التناقض في العبارة. فموضوع المناقشة هو: في أي الحالات “وضع المشرع الدستوري قيدا” على السلطة القضائية في اتخاذ الإجراءات الجزائية بحق عضو مجلس النواب (متمثلا بمنع “القاء القبض” تحديدا) وأي الحالات لم يضع عليها ذلك القيد؟
لكن نص المحكمة الاتحادية تجنب استخدام الكلمات الصحيحة أعلاه واستعمل كلمة “مساءلة” بدلا من “القاء القبض”! (أو القيد عليه). ولو تم استعمال العبارة الصحيحة “القاء القبض”، فسيكون الخلل واضحا أن تفسير المحكمة، كمن يقول: “لا يجوز القاء القبض إلا بالجناية ولكن يجوز القاء القبض بغير الجناية”!
أما “المساءلة” عموما، إن لم تشمل المساءلة “القاء القبض” المحرم بالنص الدستوري، فلم يمنعها المشرع، وبالتالي فهي متاحة. فيمكن لشرطي المرور ان يحرر غرامة مالية للنائب مثلا، دون ان يخالف عمله الدستور. ويمكن مقاضاة النائب على أي مخالفة او جنحة او جناية، ولكن دون القاء القبض عليه! ويمكن الحكم عليه عدا الحبس، لأن الحبس يتضمن معنى القبض الذي هو محصن منه دستوريا.
وإن عدنا إلى قضية النائب هادي السلامي، نجد أنها “حالة إبداء رأي” واضحة، تنطبق عليها الفقرة أ من المادة، ولا يجوز مقاضاته عليها إطلاقا. فالمادة تمنحه حصانة من المقاضاة لا يستطيع حتى مجلس النواب أو رئيسه رفعها كما هو الأمر في حالة الجناية. إنها حالة ابداء رأي (سواء كان الرأي صحيحا او خطأً، وسواء كان يستند الى حقائق موثقة أم لا، فالنص يمنع مقاضاته امام المحاكم في هذا الأمر) لأن النائب لم يضرب أحدا او يسرق أحد او اعتدى على أحد أو خالف قانون مرور الخ. لقد أبدى رأيا سواء بالقول أو الكتابة، ولا يحق لأحد مقاضاته حتى أن لم يكن رأيه يستند على وثائق سليمة.
أما تبرير المحكمة الاتحادية لـ “ضرورة” تفسيرها بجواز القاء القبض (او “المساءلة” حسب كلماتها المستعملة) فهو:
“لأن ذلك (القيد على المساءلة) يخل بمبدأ المساواة الجنائية الذي هو مظهر من مظاهر المساواة أمام القانون فلا يجوز وضع عضو مجلس النواب فوق القانون دون بقية المواطنين الذين يمثلهم في ذلك المجلس وأن مبدأ المساواة أمام القانون بعد تطبيقا صريحا للحقوق والحريات المنصوص عليها في الباب الثاني من الدستور تحت عنوان (الحقوق والحريات) إذ نصت المادة (14) من الدستور… (العراقيون متساوون أمام القانون دون تمييز بسبب الجنس أو العرق أو القومية أو الأصل أو اللون أو الدين أو المذهب أو المعتقد أو الرأي أو الوضع الاقتصادي أو الاجتماعي)
وهذا تقدير غير دقيق وبيانه كما يلي:
أولا، كما قلنا، فأن للمحكمة الاتحادية ان تفسر نصوص الدستور، لا أن ترفض نصا تختاره لأنه يناقض برأيها نصا آخر. فعندما يناقض “قانون” لنص دستوري، فللمحكمة رفض القانون، أما عندما يكتشف تناقض نصان دستوريان، فإن ذلك يستدعي تعديلا للدستور، ليحدد المشرع أي الجزئين المتناقضين يجب “تعديله” ليكون منسجما مع الآخر، ويحدد كيف يجب ان يتم ذلك التعديل وإلى أية درجة. وليس للمحكمة الاتحادية ان تحدد الجزء الذي يجب “تعديله” والذي يجب تركه، بنفسها.
ثانيا، ليس هناك تناقض حقيقي بين المادتين الدستوريتين كما تدعي المحكمة. فالتمييز الذي اعطى النائب تلك الأفضلية ليس تمييزا على أساس العرق أو القومية … الخ من الأسس التي منعت المادة المذكورة التمييز وفقها.
فيبدو لي أن هناك اختلال في فهم “المساواة أمام القانون”. فالمشرع اعطى بالفعل افضلية لعضو مجلس النواب على غيره، واستثناه من المساواة التامة مع غيره أمام القانون. فالقبض على المواطن المتهم مثلا، لا يحتاج موافقة الدائرة التي يعمل فيها، عدا النائب! وهذا “التمييز الوظيفي” ليس خطأً، مادام ضرورياً برأي المشرع لتمكين العضو من أداء واجبه في خدمة الشعب الذي انتخبه بشكل سليم، سواء اعتبرت المحكمة الاتحادية ذلك التمييز عادلا أم لم تعتبره.
يضيف نص المحكمة الاتحادية سببا آخر لرأيه فيقول: “… ولاسيما ان الحصانة البرلمانية ضد المسؤولية الجزائية لا تعد امتيازا شخصيا للنائب أو حقا له كما انها لم تقرر لمصلحته وإنما تعد امتيازا مقررا لمجلس النواب بوصفه ممثل للشعب بما يضمن استقلاليته في عمله وحماية لأعضائه”.
ولكن كيف “تحمي الأعضاء” دون حماية شخصهم؟ وكيف تعاقب “الشخص” دون ان تؤثر عليه “كعضو” في المجلس؟
إن طبيعة عمل النائب تعرضه إلى احتمال الابتزاز أكثر من غيره، مثل احتمال اصدار تهم تعسفية ضده، خاصة في ظروف الاضطرابات السياسية والاجتماعية في البلد، مما يهدد بمنعه من أداء واجبه تمثيل ناخبيه بشكل سليم. ومن هنا جاءت ضرورة حمايته بـ “حصانة” تحميه من القاء القبض عليه. لكن المشرع كان يعي أن منح النائب “حصانة مطلقة” سيعني إعطاءه حرية خطرة، تتيح له استغلال حصانته المطلقة لارتكاب جرائم قد تكون خطيرة. لذلك قرر أن لا تشمل الحصانة حالات الاتهام بالجرائم الكبيرة المسماة “الجنايات”، إلا أنه اشترط مع ذلك موافقة مجلس النواب على ان التهمة الموجهة الى النائب معقولة، وأن اغلبية في المجلس تثق بأن الظروف القضائية في البلد ملائمة ليحصل النائب على محاكمة عادلة، قبل ان تسلمه للقضاء.
لكن تفسير المحكمة الإتحادية يقلب الأمور. فهو يتيح القبض على النائب للجرائم الأخف، بينما يقيد القبض عليه عندما يرتكب جريمة أكبر! إنه يطلق الحرية للقبض عليه ومحاكمته بجنحة وسجنه خمس سنوات، ويقيد القبض عليه لمحاكمته بجناية وسجنه عشرين عاما أو خمس سنوات ونصف!
تستنتج المحكمة من مناقشتها:
“لذا ولما تقدم ذكره لا بد للمحكمة الاتحادية العليا من العدول عن قراراتها السابقة بخصوص استحصال موافقة مجلس النواب بشكل مطلق عن أية جريمة يتهم بها أيا من أعضاء مجلس النواب واقتصار ذلك بحالة واحدة فقط وهي (عدم جواز تنفيذ مذكرة القبض الصادرة عن جريمة جناية غير مشهودة متهم بها عضو مجلس النواب خلال مدة الفصل التشريعي او خارجه إلا بعد استحصال الإذن بذلك….وفيما عدا ذلك تتخذ الإجراءات القانونية بدون موافقة مجلس النواب أو رئيسه في حالة اتهامه بارتكاب جريمة من جرائم الجنح والمخالفات التي لا علاقة لها بعمله داخل مجلس النواب أو إحدى لجانه والموصوفة بالحصانة الموضوعية المشار اليها آنفا) واعتبار ذلك مبدأً جديداً وعدولاً عن المبدأ السابق المتعلق بحصانة عضو مجلس النواب.”
أوضحنا أن هذا الاستنتاج بجواز القبض على النائب في التهم غير الجنائية، غير دستوري ومقلوب المنطق، وبالضد من الاستعمال السليم والواضح للغة، كما يفهم من أداة الاستثناء “إلا”. ومن الملفت للنظر أن تشير المحكمة الاتحادية العليا إلى أن استحصال موافقة مجلس النواب يقتصر على حالة واحدة فقط، لكنها لا تشير الى أن تلك الحالة هي الحالة الوحيدة أيضاً التي يتاح فيها تنفيذ “القاء القبض” على النائب المتهم! فتوحي بذلك بأن القاء القبض متاح في الحالات الأخرى، أما حقيقة النص فيقول أن القاء القبض في الحالات الأخرى غير متاح في كل الأحوال ولا حتى في حالة رفع الحصانة عن النائب!
وفي استنتاج المحكمة الاتحادية تقليل آخر لا أساس له، للحماية الدستورية للنائب، بتحديد تعسفي من قبل المحكمة بتفسيرها المحدد لحالات تطبيق للمادة 63 ثانيا أ، والقول بأنها لا تنطبق إلا على علمه “داخل مجلس النواب أو إحدى لجانه الموصوفة بالحصانة الموضوعية”، (إن فهمت كلمة “داخل” بمعنى المكان) وهو أمر لم يحدده الدستور، واعتداء آخر على النص الدستوري! فالدستور حمى النائب من أية محاكمة لما “يدلي به من آراء” دون تحديد المكان. تحديد المكان غير مبرر، فالنائب قد يبدي رأيه النيابي في وسائل الإعلام أو في مكان عام او غيره خارج مجلس النواب ولجانه، وهو محمي بوضوح في هذا من الدستور، ولا مبرر لتفسير المادة بأنها لا تشمل تلك الحالات.
أما إن لم يكن المقصود باستعمال كلمة “داخل” كظرف مكان، (ويجب ان يكون ذلك واضحا بلا لبس في النص) أي أن يكون المقصود اشتراط تطبيق الحماية على الآراء التي لها علاقة بعمله فقط، فهو تفسير مقبول، وفقط إن لم يشمل “القاء قبض” (باعتبار انه حين يتكلم عن قضية عائلية مثلا، فإنه لا يتكلم بصفته نائبا، وبالتالي لا تشمله الحماية المخصصة للنواب). لكن حتى في هذه الحالة يجب الحذر، حيث يتوجب اثبات ان الكلام لم يكن متعلقا بالعمل النيابي، قبل البدء بمحاكمة النائب.
لكن نصا آخر لتفسير المحكمة يوضح أن ما نخشاه هو المقصود، وأن المقصود بالفعل هو اقتصار الحماية على “داخل” المجلس. فالنص يحدد تفسير المحكمة الاتحادية بشكل تعسفي “الحالات” التي يحمي فيها النص الدستوري النائب من المساءلة عن إبداء آرائه، وهي “أثناء جلسات المجلس أو في إحدى لجانه وكذلك تشمل المناقشات والمداولات التي تتم في جلسات المجلس أو اللجان أو أثناء مناقشة مقترحات القوانين من قبل مجلس النواب وكذلك الأسئلة الشفوية والمكتوبة التي توجه في حالة الاستجواب”. وجميع تلك الحالات هي حالات داخل مجلس النواب! أي ان النائب غير محمي لإبداء آرائه في الإعلام مثلا وفي حديثه مع ناخبيه وفي حملاته الانتخابية وغيرها من الحالات التي من الواضح تماما ان النص الدستوري يشملها، حيث لم يتم استثناء أية حالة ابداء رأي في الدستور، بينما يضيق تفسير المحكمة الاتحادية تلك الحالات الى اقصى حد بتحديدها بما يجري داخل مجلس النواب فقط!
إذن الخلاصة هي ان حصانة النائب الدستورية من القاء القبض عليه، يشمل كل الحالات عدا حالة “الجناية” وبموافقة مجلس النواب (أو بدونها في حالة الجرم المشهود)، فلا يقبض على النائب إلا في تلك الحالة! أما المقاضاة فممنوعة لما يدلي به من آراء (لها علاقة ما بكونه نائبا) في أي مكان، وعدا الإدلاء بالرأي فيمكن مساءلته بالطرق التي لا تشمل القبض عليه (الحد من حريته). هذا ما يقوله الدستور بوضوح، ولا يوجد تبرير أو تفسير معقول لأي من التحديدات الشديدة التي وضعتها المحكمة الاتحادية في تفسيرها للنص.
ملحق: إشكالية صلاحيات المحكمة الاتحادية العليا وهلامية الحدود بين “التفسير” و “التعديل” – من يحرس الحرس؟
قلنا أن المحكمة الاتحادية تستطيع “تفسير الدستور” لكن ليس ان تعدله أو تقلبه! ويجب ان نميز بين ما “ليس واضحا من نصوص دستورية”، وللمحكمة ان توضحه، وما “لا يعجب المحكمة من نصوص دستورية”، ولا يحق للمحكمة ان تعدله. فتدخل المحكمة يجب ان يقتصر على الحالة الأولى. فإن وجدت المحكمة خللا او تناقضا في النص الدستوري، فيجب تعديله وفق الأسلوب الدستوري، وليس بتفسير من المحكمة الاتحادية!
لا يفترض أن يتاح المحكمة مثلا ان “تفسر” عبارة “لا يسمح” في الدستور، بـ “يسمح” حتى لو وجدت الأولى غير مناسبة! وإلا كانت المحكمة الاتحادية “تعدل” الدستور وهذا ليس من حقها. ورغم ذلك نجد أن المحكمة قامت بذلك عملياً.
وإذا كان قلب العبارة “تعديل” واضح وتعد على الدستور، فهناك أيضا تعديات ليست بهذا الوضوح، ورغم ذلك فهي تعديلات أو تغييرات في الدستور من الناحية العملية. فمثلا، إذا فسرت المحكمة عبارة “لا يسمح” بأنها “لا يسمح في بعض الأحيان” فقد أزالت المنع الدستوري من حالات لم يسمح الدستور بإزالتها، وهذا تعديل بمفهوم النص الدستوري. وكلما زادت الحالات المستثناة بالتفسير، من النص الدستوري، كلما كان عمل المحكمة “تعديلا” اكثر مما هو “تفسير” للدستور.
والمشكلة تكون شديدة الخطورة عندما نتذكر أن قرارات المحكمة الاتحادية نهائية وملزمة وغير قابلة للاستئناف! فمن سيحدد إن كان فعل المحكمة “تفسيرا” ام “تعديل”؟ المحكمة الاتحادية هي من يقدم “التفسير” وهي من يحكم عليه بأنه “تفسير” وليس “تعديلا”، ومهما كان رأينا أو رأي مجلس النواب مخالفا لها، فلن يؤثر شيئا، وسيمضي أي تعديل للدستور تقدمه المحكمة الاتحادية على أنه تفسير، دون ان يستطيع احد الاعتراض عليه قانونيا!
صحيح أن لا بد في النهاية من مرجع قانوني أعلى، لكن في مناطق الحدود الرمادية بين القضاء بالتشريع، فإن هلامية اللغة النسبية والموجودة دائما، تجعل من الصعوبة أحيانا التمييز بين التفسير والتعديل، وتضعنا أمام مشكلة حقيقية. ويبدو لي ان هذه المشكلة لم تطرح سابقا، على الأقل في العراق، ولم ينبه احد الى الدور الخطير الذي يوكل الى المحكمة الدستورية عمليا، من خلال منحها الكلمة الأخيرة بلا تحديد. فهنا يمكن للسلطة القضائية التدخل بعمل السلطة التشريعية عمليا، وبالعكس. وهو ما قد يهدد أي نص دستوري أو تفسير قضائي، كما كشفت قضية النائب هادي السلامي والنص الدستوري الخاص بحماية النواب.
في رأيي، لا بد من إيجاد آلية يكون المرجع النهائي فيها هو مجلس النواب عند الشك بعائدية أية قضية بين السلطات، لأنه الجهة الوحيدة المنتخبة من الشعب مباشرة، والشعب هو مصدر السلطات كلها.