أ.د. مصطفى عطية جمعة

thifaf.com

الإبداع الروائي والموروث التاريخي والأسطوري

نقاش هادئ لإشكالية مشتعلة

أ.د. مصطفى عطية جمعة

أستاذ الأدب العربي والنقد- مصر

mostafaateia@gmail.com

هل تتكأ الرواية الحديثة على التاريخ والأسطورة؟ من خلال الإجابة عن هذا السؤال؛ نسعى إلى تقديم تأصيل عن مدى علاقة الرواية الحديثة والمعاصرة بالإرث التاريخي والأسطوري، فمن شأن تبيان هذه العلاقة، وتعميقها؛ تكوين معرفة عن أهمية مواصلة الروائي المعاصر واتكائه على السرديات التاريخية والأسطورية للإنسانية.

فعندما ننظر في علاقة الأدب بالإنسان؛ نكتشف أنها ليست مجرد علاقة عقل يفكر، وذات تبدِع، وأنامل تكتب، وإنما تمتد العلاقة إلى ما هو أبعد من ذلك، فيكاد الأدب أن يكون هو الوجه الآخر المدوِّن للإنسان، أي أن الأديب يكتب حياة الإنسان، في علاقته مع أفراد المجتمع من حوله: أحياء وأمواتا، كبارا وصغارا، نساء ورجالا وأطفالا، بغض النظر عن ماهية النصوص التي يسجلها الكاتب؛ شعرا، نثرا، سردا، أغاني، ذكريات، فكلها لصيقة الصلة بالإنسان، في تفاعله مع العالم الخارجي، ومشاعره وأحاسيسه الداخلية. فيمكن القول: إن الأدب نشأ للتعبير عن الإنسان، ومن أجل كتابة أحوال الإنسان وما يعتمل في فؤاده. بل إن المبدع الإنساني اكتشف الكتابة، وعرف التدوين من أجل تسجيل كل ما توصّل إليه في حياته؛ الحكمة والدين والروحانيات، وفي سبيل التعرف على الطبيعة والموجودات، والنظر في تقلبات الأزمان وجغرافية المكان وأنواع الكائنات، ويقص حكاياته وأساطيره.

لقد حضر السرد (الحكي والقص) بأشكال مختلفة منذ العصور القديمة في التاريخ، جنبا إلى جنب مع الأشعار والأغاني والحكمة، وكانت هناك سرديات أسطورية، وأخرى واقعية إخبارية، وكلها تتعلق بالإنسان: خيالا وواقعا وأحداثا.

وتشير الأدبيات التاريخية إلى أن أقدم القصص التي وصلت إلينا لم تكن سطحية للتسلية، بل هي مملوءة بالحكمة وتجارب الأيام، ولا يمكن للإنسان أن يخلق مثل هذه القصص بين عشية وضحاها، بل لابد لها من حقب وأزمنة طوال، تنشأ فيها وتنمو. والدليل واضح من خلال الجماعات البدائية التي لا تزال تعيش على كوكبنا، وتمتلك تراثا من القصص والقوانين يرثونها جيلا عن جيل، من غير تسجيل، أي يعتمدون الشفاهة والحفظ بوصفهما وسيلتين لنقل السرديات والقصص. فالأرجح أن يكون أسلافنا مثل هؤلاء؛ فكروا وعبروا قبل الكتابة والتدوين. فهذه الجماعات لديها ثقافاتها وفنونها وآدابها، المتوارثة بطرق مختلفة، أساسها شفاهي، وتحمل عقائد الجماعات وتوجهاتها، وحكمتها المتوارثة، بما يعني أن الأدب: شعرا وقصا، هو الوجه الآخر لحياة الإنسان أيا كانت نوعية ثقافته، ومستويات حضارته.

لقد اختزن الإنسان البدائي الحكايات بكافة أشكالها، ورواها، وتعمّد حفظها، لينقلها إلى الأجيال التالية، فلمّا تقدمت المجتمعات، ونشأت الحضارات، وتوصلوا إلى أبجديات الكتابة؛ تحوّل الشفاهي إلى مكتوب، للحفظ والرواية.

فلم تخلُ حياة الإنسان من الأدب في أي مرحلة من مراحلها، غير أن الشعر ربما يكون سابقا على الإبداع النثري، لأن الشعر لغة الوجدان، والنثر لغة العقل، والإنسان ينشد بوجدانه قبل أن يفكر بعقله. ويرى والفلاسفة وعلماء الاجتماع أن “البشرية لما قطعت أشواطا في مدارج المدنية؛ هدأت العاطفة الحادة، وزاد التفكير المنظم، فجاء تعبير الإنسان عن أفكاره نثريا، وأخذ الأدب يتطور في صور مختلفة، لأن الأدب ظاهرة اجتماعية تنشئها العوامل الطبيعية، التي تنتج الظواهر الاجتماعية الأخرى، والاجتماع قائم على أساس المادة، ويتطور المجتمع ويترقى كلما تطورت موارده وتكاثرت، واستقرت مصادر غذائه.

وقد نتحفظ قليلا على الرأي السابق الذي ينظر إلى الأدب بوصفه ظاهرة اجتماعية، ويُرجِع أسباب الاجتماع الإنساني إلى عوامل مادية. وإن كنا لا ننفي هذا العامل المادي، بل نقر ونعترف بدوره المؤثر في تشكيل المجتمعات، وإنتاج الآداب، ولكنه ليس عاملا أحاديا؛ ذلك أن الاجتماع فطرة لدى مختلف الكائنات، فما بالنا وإذا كان هذا الكائن هو الإنسان، ومجتمعه يتأثر بالماديات، وأيضا بالفكر والروحانيات.

والأدب كذلك، لا يتوقف على البعد المادي في المجتمع الإنساني، فقد رأينا قبائل شديدة البداوة لديها آدابها وفنونها، بما يؤكد أن الأدب فطرة أيضا في التجمع الإنساني، ولكنه فطرة لا تتصل بالفرد، وإنما تتصل بالمجتمع البشري المتكوِّن، الذي ينتج آدابه، بواسطة فرد أو بعض أفراده، مثلما ينتج سائر ما يحتاجه من غذاء وكسوة وسلاح؛ بما يدفعنا إلى الاستنتاج بأن الأدب لصيق بالإنسان في كافة أنشطته، ومن الطبيعي أن يعبر عن حياة الإنسان والجماعة، لأنه أحد نواتجها، وقد يظهر مبدع في جيل من أجيال الجماعة البشرية يأتي بطفرة إبداعية، تساهم في تأسيس فن/ أدب جديد للجماعة، أو تطوير ما هو قائم. وما دام الأدب معبرا عن الإنسان، فإنه يتبنى قضايا الإنسان وهمومه وفكره، وهذا ما جعل الآداب لها مكانتها السامية بين الجماعة البشرية، أيا كانت نوعيتها ومدى جماليتها وسموها.

أما قضية أسبقية الشعر على فن النثر، فهي تعني أن الشعر كان أول إبداعات الإنسان، لأنه اقترن بالغناء، والإنشاد، والتعبير عن العواطف والأحاسيس. ولكن حتما لن يكون سابقا على جانب مهم في حياة الإنسان ونشاطه الإبداعي؛ ألا وهو السرد، فالسرد حاضر في الشعر والنثر معا، بل هو حاضر في غالبية الإبداعات الفنية والأدبية التي يبدعها الإنسان، منذ العصور الأولى، وإلى عصرنا الحاضر، فالسرد معبر عن المعرفة، والحياة، والفكر، والمجتمع، في مختلف أحواله، زمانا ومكانا؛لأنه مرتبط بمختلف مواقف الإنسان، وبواقعه المعيش. فحيثما تواجد الإنسان صاحبه السرد؛ حكايات ومواقف وقصص، خيالات وأساطير، سرديات عن تقلبات الطبيعة، وطبائع الحيوان، ومواقف البشر، بقصص تعرض الحكمة، وتعلّم الأدب، فإذا كان الإنسان مفتونا بالشعر والغناء، فإنه مطبوع على سماع السرد، الذي رواه وتوارثه شفاهة، فلما عرف الهجاء، واخترع الكتابة، دوّن سردياته بأشكال مختلفة، منها ما هو شعري، ومنها الخيالي، ومنها الحقيقي الواقعي، منها الشفاهي ومنها المدوَّن.

بل يمكن الجزم بأن السرد يتفوق على الشعر، لأنه لصيق الصلة بحاجات الإنسان، فإذا أبدع الإنسان الشعرَ من أجل الغناء والطرب، فإنه يروي السرد بكافة أشكاله لدواع عدة، منها المتعة والتعلم والاستئناس والاستفادة، أي أنه يروي في كافة حالاته، وأينما تواجد. ثم تطور الأمر من الشفاهي إلى الكتابي، على الأحجار وجدران الكهوف، ثم في البرديات والأوراق وصولا إلى الطباعة وما تلاها.

فالأسطورة نص سردي، ثري في عمقه التاريخي والديني، يعيننا على فهم معتقدات أجدادنا منذ آلاف السنين، وبما كانوا يؤمنون، وتصوراتهم عن الإله، والميتافيزيقا، وهو ما نظر إليه الروائيون المعاصرون، بوصفه ميراثا قصصيا، يمكن استخدامه في السرد المعاصر ليكون أداة فنية، أو قناعا، أو رمزا، أو رواية بعيون معاصرة عن الإنسان القديم، فما أجمل أن يتتبع الروائي المعاصر خطى الحاكي القديم!

نقول هذا، لنؤكد على أن الرواية هي إحدى أشكال السرد المبدَعة من قبل الإنسان، ومن الخطأ أن نحصر تصورنا عن السرد في الأشكال القصصية السائدة الآن، مثل الرواية، والقصة، والقصة القصيرة والمسرح، فالإنسان سيظل في حالة إبداع دائمة للسرديات، وكل مرحلة من مراحل حياته، أو بالأدق هناك أنماط من السرديات تشيع في حقبة ما، تواكبها حركة كبرى من الذائقة والتلقي، بما يجعل هذا الشكل ينتشر بين الناس، وقد تأتي حقبة أخرى، يضمر فيها انتشار شكل أو اتجاه بعينه، وتطغى أشكال سردية أو اتجاهات ما، والأمر يختلف من مجتمع إلى آخر، حسب مستواه الثقافي، وحسب رغبة القراء الذائقية، وحاجاتهم التخييلية.