انتاج التخلف
جوتيار تمر/ إقليم كوردستان العراق
تكرار التجارب السابقة والتي حُكم عليها بالفشل ليس بأمر هين خاصة في مجتمعات تعتمد في الاصل على آلية التقليد في اغلب الاصعدة المتحكمة بآلة التدوير الحياتي فيها، وهذا ليس منطقاً مبتكراً بقدر ما هو منطق مفروض لظروف متنوعة يرجعها ابناء المجتمعات تلك الى التسلط وعدم اعطاء الحريات واختفاء روح الاستقلال،، وعلى الرغم من أن الامر من وجهة نظري تبريري اكثر ما هو منطقي لكون الشعوب الواقعة في ظروف اقسى من تلك نهضت بصورة فعالة خلال نصف الفترة التي استوعبتها هذه المجتمعات، فإنها لم تزل تتقيد بتلك الافكار التقليدية البليدة.
وعلى هذا الاساس نحاول رصد بعض الظروف المتمكنة في عقلية افراد هذه المجتمعات، من ساسة ومفكرين ومثقفين واقتصاديين وعسكريين ورجال دين ولاهوت، الذين يرون في كل فعل خارج عن اطار رؤيتهم، مبرمج وصادر على اساس نظرية المؤامرة التي تعد من اشد الآفات فتكاً بهؤلاء،، وهذا ما يدفعهم دائماً للتبرير عن قصرهم وتقصيرهم بالماضي وعقدة الاضطهاد والانظمة الفاسدة التي حكمت اغلب هذه المجتمعات، ولكنهم مع ذلك يتناسون عمداً أن عجلة الحياة لا تتوقف عند حدود مأساة أو مصيبة أو كارثة، إنما تستمد قوتها من عقلية الاستمرارية والبقاء ضمن اطار تجددي واع، وماعدا ذلك لا يمكن إلا أن ينتج التخلف ويغرس جذوره في الاجتماع، وبهذا يكون المجتمع ذا اطار مرصع ومزهر، لكنه من الداخل متخلف جذرياً، وتؤثر الصفة التخلفية هذه على كل الاصعدة الحياتية سواء أكانت سياسية لاسيما تلك المواقف السياسية التي لا تصمد امام التحديات الخارجية لأنها في الاصل مواقف انفعالية غير واعية بتقنية المصالح الدولية والاقليمية من جهة، وبالإمكانيات المتوفرة بعيداً عن التباهي والتناحر والشعارات والاقوال البعيدة عن الافعال من جهة اخرى.
اما على الصعيد الاقتصادي يبرز واقع الحال بصورة مشعة ظاهراً، حيث رؤوس الاموال متوفر لكنها غير منتجة إنما اتكالية على انتاج الغير، فكل المقدرات الانتاجية نجدها تعمل بتقنية الشراكة، سواء من السلطة ام من الطبقة البرجوازية المتحكمة بالسوق والسلع مع واجهات لشركات خارجية اجنبية تحفر على ارضية خصبة لتناميها الثنائي المادي والتوغل في صميم حياة تلك المجتمعات بدوافع اخرى مبطنة وظاهرة في آن واحد، وحتى في المجال العمراني والايدي العاملة لا توظف تلك الاموال إلا من خلال تقنيات خارجية، وذلك ما يؤثر في الاجمال على الميزان الديموغرافي ايضاً وذلك من خلال جذب الايدي العاملة بصورة كبيرة، وهذا ما يبرز سمة الاتكالية على القوى الخارجية بحيث أن اختيار الانماط الانتاجية هذه لا تتناسب مع الامكانات العقلية والعضلية والانتاجية الداخلية فتغرس استراتيجية تلك القوى في الداخل، وهذا بالضبط ما يؤدي الى الاعتقاد بأن هذه الانماط الانتاجية إنما تعتمد على قوة عمل وفيرة وليس على وسائل الانتاج ونوعيته، فتخلق سمة اخرى في العمل الاقتصادي الداخلي وهي الكمية البعيدة عن النوعية، ولعل ذلك يعد ايضاً من اهم الآفات التي تنهش بجسد المجتمع داخلياً وخارجياً.
ومن الناحية الاجتماعية نلامس تفسخاً واضحاً في البنى الاجتماعية التي انسلخت من جلدها وانغمست في دوامة التحديث المقلد بعيداً عن الاستيعاب التدريجي للعملية التحديثية الواعية من جهة، ومعرفة ضرورة التدريج التحديثي من جهة اخرى، فتكون الحصيلة الاجمالية زيادة انتاج التخلف من خلال شباب لايمكنه تحمل اعباء المرحلة ولا المساهمة في العملية البنائية لكونه في الاصل شباب مقلد مشترك في العملية التحديثية من خلال آلية الاستعمال فقط وثقافة التقليد اللاواعي، وليس لكونه مساهم في التأسيس والانتاج، لأنه حصيلة انتاج التخلف السابق الذكر في المجالات والاصعدة الاخرى.
كما على هذه الاصعدة المذكورة نلامس انتاجاً تخلفياً واضحاً فإننا يمكننا أن نقارنها بأغلب الاصعدة الحياتية الاخرى المذكورة سابقاً، والتي تكون في النهاية تحصيل حاصل للعمليات المقننة السابقة واقول المقننة لأنها تقنن وتشرع قبل أن تعلن من الجهات المعنية في هذه المجتمعات، حتى الجهات الدينية واللاهوتية إنما هي في مجتمعاتنا عجلة تدور ضمن اطار غير بناء وغير مثمر بل هي اداة اخرى لإنتاج التخلف سواء من خلال ممارساتها اللاعقلانية البعيدة عن صميم الايمان بما هي تنادي به، وهذا ما يتضح من المواقف الغير مستقرة والاضطرابات التي تخلفها وراء بعض المفاهيم والتأويلات الغير منطقية والتي افرزت احداث وصور لا تتناسب والعقائد التي تدعوا اليها.
واجمالاً فان اشكالية هذه المجتمعات لا تتوقف عند التخلف والابتعاد عن المضمار التجديدي الواعي فحسب بل اصبحت هي مصنع انتاجي واضح للتخلف نفسه، وذلك ما يجعلنا نعيش دوامة الحياة عبر سلسلة من التقلبات والتغييرات واللا استقرار على جميع الاصعدة.