مقدمة: بقلم (صالح أحمد (كناعنة)
لماذا ولدت هنا؟!
عنوانٌ لافت… يفرض على وعي القارئ عدة تساؤلات تطرق وعيه وتستفز فكره منذ الوهلة الأولى، فالعنوان برأي غالبية النقاد والدارسين للأدب يشكّل: “سمة العمل الفني أو الأدبي الأول، من حيث هو يضم النص الواسع في حالة اختزال وكمـون كبيرين، ويختزن فيه بنيته أو دلالته أو كليهما في آن… وقد يضم العنوان الهدف من العمـل ذاتـه، أو خاتمة معرفيّة أو اجتماعيّة أودينيّة”.
لماذا ولدت هنا؟ عنوان يجعلنا نتهيَّأ ذهنيًّا إلى أنّنا أمام نص فلسفي، ليس هذا فحسب… بل ويعتمد الفلسفة القَدَرِيّة (من القَدَر) الغيبية منهجًا ومنطلقًا… وأنّه سيحملنا إلى رحلة تأمليّة فلسفيّة في عوالم غيبيّة قدريّة خفيّة غريبة… وهو ما حدث معي تمامًا حين شرعت بقراءة نص أخي الأديب رافع حلبي حفظه الله. وقد اكتشفت أن حدسي كان في محله، وأنّني أمام نص فلسفي بدرجة كبيرة…
أضف إلى ذلك: أنّني لمست أنّ كاتبنا لم يرد أن يتقيّد بقالب محدّد، أو مذهب فكري أو أدبي من المتعارف عليه، فهو لم يحاول مناقشة أفكاره بالطرق الفلسفيّة والأساليب الجدليّة؛ القائمة على سوق الدلائل والبراهين والجدليّات الفكريّة والمنطقيّة، والتسلسل المنطقي من الفرضية إلى الجدلية إلى البرهان فالدليل والثبوت الفكري العقلي المنطقي واليقيني… كما هو متبع في المناهج الفلسفية… بل وجدته يطرح الأفكار ويعالجها بلغة ومنطق الواثق المقتنع الذي لا يحتاج إلى دليل ولا إلى جدل ولا إلى أساليب إقناع… إنّه يعرض ما يؤمن به وما يراه حقيقة وواقعًا ومنطقًا لا يقبل الجدل، ولا يحتاج إلى دليل… إنّما يحتاج إلى بصيرة وإيمان ووعي ينطلق من الروح الصافية المؤمنة الواعية المدركة.
وهو في ذات الوقت لا يطرح الأمور على أنّها مسلّمات غيبيّة قَدَريَّةٍ وكفى… بل يطرحها على أنّها أمور مستقرّة في وعينا وحسّنا ومتأصّلة في روحنا… ولكنّنا تغافلنا عنها بابتعادنا عن عوالم الروح، وانغماسنا في عوالم المادّة الطاغِيَة المُطغِيَة… ما طمس عين البصيرة والوعي الروحي فينا -وبدرجات متفاوتة من شخص لآخر بالطبع- وفتح وعينا وعيوننا على مظاهر المادّة ومغرياتها الفانية، وصَهَرَنا في عالم التنافس المادّي الذي ملأ عالمنا ظلمًا وجورًا وفرقة وتخاصمًا وتلاحُمًا وسباقًا محمومًا في عالم المادّة الزائف الزائل… هذا الصراع الذي أنسانا أنّ الحياة محكومة بِقَدَر لطيف خفي كلُّنا نؤمن به في دواخلنا العميقة… ولكنّ معظمنا غفل عنه وتناساه حين طحنته تيارات المادة الظالمة المظلمة الطاغية المطغية…
لماذا ولدتُ هنا؟ أحد هذه الأسئلة الغامضة الغيبيّة المحكومة بالقّدَرِية.. فمن منا يملك أن يقرّر أين يولد؟ ومتى يولد؟ ولماذا وجد؟ ولماذا هو موجود على هذه الهيئة، وفي هذه البيئة، وفي تلك الظروف؟…
تساؤلات قد تمر في وعي كل منّا في لحظات صفاء ذهني؛ أو روحي إذا أردنا الحقيقة. وكل منّا تمر به لحظات، أو تحدث له أمور تجعله يقف ليفكّر: كيف، لماذا، ما الذي جعلني أفعل، ما الذي قادني إلى ما أنا فيه؟ أسئلة تحمل في طياتها أفقًا من الغرابة لا نجد له تفسيرًا في ما تعلمنا من علوم، ولا في ما قرأنا واختزنا من معارف وتجارب.. ولا فيما عشنا مشغولين بالجري وراءه… تمامًا كما حدث لكاتبنا الذي وصل صدفة إلى مكان لم يكن يقصد الوصول إليه.. ولم يخطّط بالسير باتجاهه أصلًا… قوّة ما قادته إلى المكان، ليجد نفسه أمام فتاة تغرق، وليجد نفسه يتجنّد لإنقاذها وليجد نفسه سببًا في انقاذها وإحيائها من جديد… ثم يجد نفسه يتساءل: كيف وصلت إلى هنا، وفي الوقت المناسب لأقوم بالعمل المناسب؟… ولماذا أنا من دون الخلق الكثيرين الذي تجمعوا في المكان كان لي الشرف بإنقاذها؟ ولا جواب بالطبع… سوى أن يسلّم بأنّه قدر؛ سرمن عوالم الروح الخفية: {.وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ۖ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} (الإسراء-85)..
من هنا ينطلق بنا كاتبنا ليضعنا أمام مسائل غيبيّة تستفز وعينا، وتتحدّى عقلنا وحقيقة إدراكنا حتى لذواتنا وللأنفسنا وما يحيط بنا… ويضعنا وجهًا لوجه أمام حقيقة كوننا نتعامل مع مسلمات لا شأن للمنطق ولا للفكر ولا للاجتهاد البشري فيها… كالأسماء والمسميات بأنواعها، مثلًا: لماذا سُمِّيَ الشجر شجرًا؟ ولماذا سمِّيَ الشمال شمالا والجنوب جنوبًا؟ والإنسانُ إنسانًا؟.. والجمادُ جمادًا؟… وقس على ذلك من أمور نتعامل معها ونحن نجهل مصدرها… تمامًا كما نجهل سر الحياة… وسر الروح… وأسرار المصير… وما سر الغريزة فينا وفي غيرنا من المخلوقات؟… ولماذا ارتبط سر وجودنا وتكاثرنا ونمائنا وبقائنا واستمراريتنا كأنواع ومخلوقات بهذه الغريزة؟ وما سر كل هذه المخلوقات والأنواع والأشكال في عالمنا، ما نعرفه منها وما نجهله؟ وكلها غيبيّات نعيشها نتعايش معها ونواجهها؛ ونبقى عاجزين أمامها وأمام أسرارها وعوالمها المجهولة الخفية.. ولكنّها تجعلنا نوقن في أعماق وعينا أن سر وجودها هو سر روح التكامل والتكافل في الحياة كما أراده الخالق سبحانه… فكل موجود وُجِد بقدرة الموجد سبحانه.. وكل موجود واجب الوجود لوجود الآخر؛ بقدر الخالق الموجد المقدِّر سبحانه… ولا يسمى الموجود موجودًا حتى يثبت وجوده… ولا يسمى الشيء شيئًا حتى يتشيّأ ويكون بسر الخالق المكنون؛ ويشغل حيزًا في الوجود والكون… وفي هذه المعادلة الخلقيّة الوجوديّة تكمن أسرار حفظ الكون واستمراريّته المتوّجة بقوّة وخاصيّة البناء الذاتي للكائنات.
من هنا يقودنا كاتبنا إلى أحدى أهم مشكلات العقل البشري على مر العصور… والتي لم تتغيَّر بتغيُّر المناخات والبيئات والثقافات… إنّها مشكلة تقديس الموجود لا الروح التي جعلته موجودًا (حققت وقدّرت وجوده) تقديس المكان لا الروح التي تحفظه، تقديس الجماد الفاني (المادي) لا الروح الباقية الخالدة! وهذا سر الصراع البشري على مر العصور “برأيه”..
من هنا يأخذنا إلى عوالم أكثر جدليّة… وأكثر استثارة للعقل والفكر والوعي… إلى أمور لم يتمكّن العقل البشري من حسمها… كقضية التخيير والتسيير… هل الانسان مسير أم مخيّر؟!.. وهو يضرب عدة أمثلة على ذلك… وهنا أيضًا يطرحها بمنطق الايمان اليقيني القدري .. وليس بمنطق الفكر الجدلي أو الفلسفي…
وبنفس المنطق تمامًا يورد فكرة وعقيدة تناسخ الأرواح التي يؤمن بها بعمق… ولا يرى أنّها قابلة للنقاش أو الجدل… بل إلى اليقين والايمان والتسليم المطلق.
ويخلص إلى نتيجة مفادها: أن الانسان تحكّمت به حيوانيّته فتغلّبت على إنسانيّته أو على روح الانسانيّة الرحيمة فيه عندما تمرّد على قوانين وتعاليم الخالق الروحانية العادلة، وتخلى عن عالم الروح النقي الرحيم البريء، وهو بهذا أصبح أشرس من أشرس حيوان، لأنّه بذلك مَكّنَ الصفات الحيوانية من التحكّم به وبسلوكه وتشكيل نهج حياته، ومن هذه الصفات الحيوانية: “الكذب، النميمة، الفساد، العنف، الحقد، الحسد، الجشع… وغيرها”… ولذلك ظهر الفساد في الأرض.
وهو يأتي بقصة يوسف عليه السلام كعبرة وكمثال على وحشية الإنسان وحيوانيّته التي فاقت شراسة الحيوان، ويتطوّع للاعتذار باسم الإنسانيّة من الذئب الذي ظلمته الإنسانيّة واتهمته زورًا وكذبًا وافترت عليه… وهو أنبل من كثير من البشر، وبقصيدة راقية رائعة تستحق التمعّن والتأمّل والدراسة بعمق.
ويضرب كاتبنا نيتشة وهتلر مثالًا على وحشية الانسان، وعلى ما يمكن للعقليّة البشرية الغريزية حين تتجرّد من عالم الروح أن تفعل وتقترف من جرائم بحق نفسها وبحق جنسها وبشريتها..
وهو هنا يتوافق مع آراء علم النفس القائلة بأنّ الشر دوائر وموجات كأمواج الماء وتياراته… فعل ورد فعل… علة ومعلول… فانت حين ترمي حجرًا في الماء الراكد… تبدأ الدوائر تتولّد واحدة عن أخرى وتتسّع بلا حدود… هكذا الشر والظلم يتّسع بلا حدود… ويرى علم النفس أن المقهور يصبح قاهرًا، والمغدور يصبح غادرًا، والمنكوب يصبح ناكبًا… وليس لمن قهره ونكبه أو غدر به تحديدًا أو حصرًا، بل قد يمتد قهره وغدره لمن هم أصغر أو أضعف منه، لأن روح النقمة والقهر والغدر متمكنّة من شخصيّته وتسيطر على فكره وعقليّته… وأنّها لن تردعه تجربة الألم التي عاناها عن إيلام غيره… بل بالعكس؛ قد تكون دافعه لذلك. (العلة للمعلول)
كما يرى كاتبنا أنّ الجمود الفكري، والتقوقع في أمجاد الماضي مهما كانت عظيمة، سبب أكيد للتخلّف والجمود الفكري والتقهقر الحضاري والتردي الخُلُقي والسلوكي والمجتمعي… وهو داء الأمة العربيّة في عصرنا بلا شك.. لأنّ عقليّة الماضي (التمسك بالماضي حدّ التقديس والجمود) عقلية خرافيّة رجعيّة مدمّرة بلا شك.
ويصل بنا كاتبنا الحكيم إلى نتيجة راقية: “أنا وأنت نستطيع أن نغير العالم” إذا عدنا إلى عالم الروح، عالم الحكمة والرحمة والمحبة، وروح المودة والايثار. وبات كل منا يحلم بهَمِّ غيره بحب ورحمة إنسانيّة خالصة صادقة.
ختامًا:
لا أدعي أنّني استطعت أن أحيط بكل أفكار صديقي الأديب الراقي رافع حلبي… ولكن هي بقعة ضوء قد تشكّل نافذة تطل على نصه العميق الشامل.. هذا النص الذي تأرجح فيه بين عالم الفلسفة والفكر… وعالم القصة والأدب.. فهو لم يقف عند حدود القصة.. فتخطاها إلى الجدليّة الفلسفيّة… وتوَّجها بولوجه عالم الشعر والبيان.. ليبدِعَ عالمًا أدبيًا متمازجًا وتجربة راقية لا يمكننا أن نصنفها في جانر القصة… ولا يمكننا كذلك أن نجزم بأنّها مادة فلسفيّة بكل ما للكلمة من معنى… فهي إذن مزيج فكري فلسفي أدبي… أراد له كاتبنا أن يكون درسًا أخلاقيًّا، وحكمة حياتيّة أبدعتها تجربته العميقة، وفكره المتّقد، وحكمته المصقولة في بوتقة الايمان والعقيدة واليقين والمنطق القدري.
أشكر أخي الراقي الأستاذ رافع حلبي على أنه اختارني وشرّفني بأن أكون أول من يقرأ إبداعه… وزادني شرفًا طلبه أن أقدم لهذا النص الراقي..
أتمنى لأخي الكاتب التوفيق والتألق ومزيد العطاء والابداع… ولك أيها القارئ العزيز متعة الإبحار في هذا النص الجميل الحكيم الرائع..
صالح أحمد (كناعنة) / عرابة البطوف