المشبك الخشبي
فراس عالم
الغرفة واسعة بلا جدران ، مضاءة بضوء خافت يأتي من اللا مكان وأشياء كثيرة متناثرة في وسط القاعة .
(1)
يتقدم (س) ، صغير متحفز ، تلتمع نظراته مع الضوء الخافت ، يتلفت حوله ثم يغوص وسط الأكوام المتناثرة يبحث ويبحث .. كتب كثيرة بلا أغلفة ، قصاصات مصفرة من صحف قديمة ، أنصاف وأرباع كتب ، العاب كثيرة ، صغيرة ، مكسرة ، و قديمة .
ملابس ، أوراق ، شهادات ، وأقلام حبر سوداء عتيقة يلقيها جميعاً في اهمال ، ينفض يديه ساخطاً .. ينصرف وهو يهمهم بعبارة غاضبة .
(2)
تتقدم (هـ) نحو الغرفة هزيلة شاحبة ، ورقيقة . عيناها تفيضان وداعة غير عادية
“يبدو أنها أكبر من (س) قليلاً .”
تتلفت حولها في وجل ثم تقترب من الأكوام في حذر تميل بجسدها ناحية الركن الأكثر ازدحاماً ، تقلب الكتب الكثيرة في لهفة ، تتأمل أحدها في اهتمام ، تحزن على الآخر المبتور ، والثالث الذي بلا عنوان . تنتقي واحداً بعينه أبقاه الدهر سليما لها ، ترفعه أمام وجهها تقرأ اسمه جيداً ، تمسح الغبار الذهبي الذي يكسوه ..ثم تحتضنه في حب . تقوم خارجه والكتاب بين أحضانها …
لابد أن قلبها يرفرف سعيداً…
(3)
تتقدم (د) ناضجة مهيبة ، أشبه ما تكون ب (هـ) ” ربما هي أمها” ، ترفع شعرها المنسدل على جبهتها تتأمل الغرفة في دهشة ، تتقدم الى حيث الأكوام الكثيرة المتناثرة ، لايعكس وجهها انطباعاً خاصاً “ربما فقط ذلك الانطباع الذي يكسو ربة البيت عندما تكتشف صندوق عاديات مهمل !” . تنحني الى الأرض تبعثر الأكوام في رتابة ، اهتمامها يتصاعد شيئاً فشيئاً ، ” هذه تصلح ..لا .. ربما هذه ..لا..لا شيء ..يصلح هنا أبداً ” .
تلتقط مشبك شعر خشبي و دبوساً ذهبياً – وجدتهما صدفة- و تنهض قائمة ” لا شيء يصلح في هذه الغرفة …لا شيء ” .
(4)
يتقدم (صاد) ، مرتخي الجسم ، ناعس النظرات متآلفاً مع كل شيء هنا
” أروع مكان في العالم ” . هكذا كان يحدث نفسه .
هذا الكتاب ذو الغلاف اللامع – يحبه كثيراً – وهذا وذاك ، وهذه وتلك و ..و.. ولكن يبدو أن أحداً ما عبث بهذه الغرفة . أحد يشبه ابنه (س) او ابنته(هـ) أو حتى زوجته (د) ، شيء ما حدثه بذلك ، يتوقف بتوجس يبحث عن كتاب بعينه .. لايجده . ثمة خطأ ما بكل تأكيد..ثمة خطأ كبير .
ما كان ينبغي لهم أن يدخلوا هنا .أجل ..إلا هذا المكان ..إنه حصنه الوحيد ” من سمح لهم بالدخول ..من؟”
(5)
يتقلب (صاد) في فراشه ، حركته تدل على اضطراب ، تستيقظ (د) من جواره
-” ماذا يا (صاد) ؟”
يستيقظ هو فزعاً و يتحسس رأسه عدة مرات
-” ماذا بك؟”. تنظر نحوه بقلق
-“لا شيء” . ينظر لها بارتياب و يعود يتحسس رأسه .
-” هل تشعر بشيء ؟”
يعود برأسه الى الوراء ويتمتم
-” لا .. مجرد حلم ..حلم غريييب “
تعود لتتمدد الى جواره
-” حاول أن تنام “
يفتح عينيه الى أقصى ما يستطيع محدقاً في شعرها المتناثر على الوسادة .
” ترى هل حقاً كانوا يعبثون داخل عقلي ؟”
يصمت قليلاً ثم يجيبه عقله
” كلا انه مجرد حلم ..حلم غريييب “
تعاود عيناه التحديق في شعر (د) المنسدل ويعود ليسأل
” ليكن حلماً غريباً ، ولكن كيف حصلت (د) على هذا ” وأشار الى مشبك خشبي قديم يتوسط شعرها ..!!
……………………………………………………………
الخارق
(1)
يهتف بنا (ص) ..
– “هلموا لقد جاء..”
ونعرف بعقولنا الصغيرة أنة يكذب ، فالشمس لازالت عالية ساخنة والأذان لمّا يرفع بعد ..لكن لا أحد يكذبه .
يترك (ب) دراجته ذات العجلات الثلاث ..يلقي (س) بكومة الأحجار التي جمعها ، ويختطف (هـ) كرته الملونة ونندفع جميعاً خلف (ص) …ونعرف يقيناً أنه يكذب .!!
(2)
نتزاحم جميعاً في غرفته أمام التلفاز الصغير ، نحملق في الشاشة البيضاء التي ترش حبات الملح والفلفل ..ولا أ حد يتحرك.
يقرب (ب) ياقة قميصه من فمه ويلعقها ، تتسلل يد (س) إلى جيبه تختلس حبات صغيرة من حلوى مكسوة بالشكولاته ويعلم أن أحداً لن يسأله الآن أن يعطيه ، يمد (هـ) قدمه الصغيرة في ظهر (ص) يعابثه آمناً ردة فعله .
(3)
وتختفي حبات الملح والفلفل..لتظهر لوحات صغيرة بأرقام عديدة ، ثم تختفي سريعاً ليظهر رجل وسيم ، يتمتم ويبتسم ،يختفي ويعود ثانية ..يقول شيئاً ما ونعرف يقيناً ما يعني ..
لقد جاء…
يكف (ب) عن لعق القميص ،تحتبس يد (س) في حركة حائرة في جيبه ..ويضم (هـ) ساقيه إلى بعضهما ..لقد جاء.
اختفى الرجل الوسيم ليحل هو مع موسيقى حماسية صاخبة ونشيد أكثر إثارة ، ويظهر هو عملاقاً طويلاً ببشرة نحاسية لامعة وقرون ثلاثة صفراء وعينين فيروزيتين ،يرتفع في الهواء مع مركبة أو يغوص في الأعماق خلف عدو .
وتبدأ المغامرة..
الأشرار من كوكب (فيجا) قادمون معهم المثقاب الذري والمرأة الشريرة والوحش ذو الأذرع الستة ..ولكنة لا يستسلم ..إنه هو ..الخارق ..يحاربهم بقبضته الحديدية والصحن الدوار وأشعة عينية الحارقة ، وتدور معركة عنيفة ولا ننبس ببنت شفة ولا يتحرك أحد قيد أنملة ، حتى تأتي اللحظة التي نبغضها كلنا ..حيث تنتهي المعركة ويظهر منظر الشمس الغاربة ورمز صغير في ركن الشاشة الأسفل ينبئ بنهاية الحلقة تتبعه موسيقى كلاسيكية ناعمة تعد بحلقة أخرى أكثر إثارة .
(4)
يلتفت لنا (ص) ويقول ” هلموا” ونعرف نحن ما يعني نتبعه إلى حيث (دولابه) الطويل يتسلقه بخفة ونلحقه متتبعين خطاه البهلوانية
….(كي تطفو برأسك فوق سطح الدولاب عليك أن ترتكز على ساعديك بشدة ، وأن تكون صبوراً ولاشك!)…….
وأرتكز على ساعدي حتى يؤلماني وأمد بصري إلى آخر مداه حيث تلك العلبة الطويلة الملساء من (السلوفان) الملون وأمد بصري أكثر لأبصر غطاءها الشفاف ومن تحته يرقد هو..أجل هو بقرونه الثلاثة الصفراء وأنفه النحاسي المستقيم وسترته الحمراء الزاهية وحزامه المشع العجيب …إنه هنا ..معنا يرقد فوق الدولاب نائماً تحت تابوته الشفاف وعلى وجهه مسحة العظمة الخارقة ..
وينبض قلبي في عنف متلمساً ذلك التابوت الملون ، وينزل (ص) ويجرني من قدمي ويغمغم ” لقد أحضره أبي من أمريكا..”
,,,,,,,,,,,
ونخرج إلى اللعب وقد تحول شعاع الشمس إلى الأصفر الباهت وأخذ الجو يبرد قليلاً ..
وألعب وأنا نصف ذاهل تملأ مخيلتي صورة الخارق الذي ينام عندنا ..
وفي ذهني سؤال ملح يتعاظم كل يوم ..
متى يسافر أبي إلى أمريكا..؟؟
…………………………
نافذة زرقاء
(1)
كان يود أن يكتب مذكراته ذات يوم ..أن يبدأها بعبارة فاخرة من طراز أنا الجنرال فلان ..قائد الحرب العظمى التي عرفتم وذقتم ،. وقد قررت أن أحكي لكم كل الأسرار التي ظللتم تتكهنون بها دهراً . حان الوقت أن أطلعكم على السر الرهيب الذي في حوزتي ، و أن أشرح لكم خطط الحرب الظافرة التي صنعت . لكنه ليس الجنرال فلان .. و لم يقد حرباً مظفرة في حياته ..و لايملك سراً رهيباً ليطلع أحداً عليه !!
(2)
تلمع المربعات البيضاء والسوداء على الشاشة . يعجبه وضع اللوحة الرأسي غير المألوف في اللعب التقليدي ، يرتب جنوده السود و خيوله وفيلته و قلاعه بزهو كبير . يبدأ حركته المغرورة بالجنود المتوسطين يسترجع كل الخطط التي أعدها للإطاحة بخصمه . يبدأ الجهاز حركاته بسذاجة مفرطة ، ينقل خيوله باندفاع مع الحركات الأولى .. يبتسم ابتسامة صفراء و يدفع بجنوده لمحاصرة الخيول الجامحة . تفاجئه بانقضاضها على المساحة الخالية خلف الجنود .. تحرجه بتهديد الملك في عقر مربعاته .. يدرك أنه سيخسر القلعة و الفيلة لا شك ليحمي الملك .. وأن عشر دقائق كفيلة بتمزيق جيشه الأسود و مطاردة ملكة الضليل في مهانة على المربعات المتداخلة ..تتحرك يده بارتباك نحو الفأرة و تضغط زر اعادة اللعبة من جديد
(3)
يلمع الركن الأسفل في الشاشة ، مربع صغير على شكل ظرف يبرق في تتابع بجوار أرقام الساعة الإلكترونية ، يحرك السهم بلهفة ليفتحه ..
– ” مرحباً ، ممكن نتعرف؟ “
تبرز الرسالة في وسط المساحة المتخمة بالرسوم
– ” ممكن أكيد “
يعاود الكتابة ويضغط زر الإرسال .
ثلاث أو أربع رسائل متتابعة تسأله عن اسمه و عمره و شكله ، يجيب عنها بصراحة شديدة , يبادلها بأسئلة أكثر لهفة . تتباعد المدد الفاصلة بين الرسائل .. تتأخر الرسالة الأخيرة كثيراً ، يتبعها برسالة أخرى
-” أين أنت ؟ “
عندما يكتب بجراءة يتجاهلنه تماماً ، و عندما يغدو صادقاً و مباشراً يتسربن منه بسهولة . التمع الركن بالرسالة الصفراء .. توسد المسطيل الأبيض الشاشة و في وسطه عبارة واحدة :
-” باي …مشغولة “
(4)
“الوصول الى هذه الصفحة غير مسموح به..!!”
نقرتان أو ثلاثة .. أرقام أخرى تبدل .. وتظهر الصور الفاتنة على الشاشة ..
” تحذير ..إذا كان عمرك أقل من 18 سنة أو تقيم في بلد يمنع دخول هذه المواقع فبادر بالخروج و إلا ..”
يتجاهل قراءة بقية العبارة ، يضغط زر الدخول ، تتابع العروض والبسمات والأجساد البضة المتألقة و النظرات الذابلة المفعمة بالطلب و الأوضاع المغرية بالاستجابة . تنتابه الحماسة يقرر الاشتراك في عضوية الموقع .. يدون رقم بطاقته المصرفية ومعلومات مقتضبة عنه ..صورة أكثر إغراءً ..عبارة أكثر بذخاً و .. ” أنت مدعو لدخول الجنة “!!”
يزداد تلمظه على الكرسي تتسع عيناه لتمتص كل فوتونات الرغبة المتطايرة من الشاشة . لكن تحميل الموقع يتباطأ .. صفحة حمراء تقطع عليه سيل أحلامه …
” بطاقتك المصرفية غير سارية المفعول!!”
(5)
نافذة زرقاء صغيرة ..بل نافذة زرقاء متوسطة .. علامة تنبئ أن برنامجاً ما يتم تحميله على الجهاز ..ضوء باهت ينعكس على كريستال الشاشة يرتطم باطن قدمه الموجهة الى الجهاز ..قدمه الممتدة على طول المكتب ، وجسده المتراخي يتبعثر فوق الكرسي .. رأسه ملقاة الى آخر مدى يسمح به كرسيه الصلب ، ودخان يعبق معلقاً فوق رأسه في حلقات ينفثها في برود .. النافذة الزرقاء تومض في تتابع ..
” تم التحميل “
تخفت مجدداً ، يتحرك سهم صغير – يوحي بتشغيل شيء ما – يهز رجليه مجدداً دون تركيز .. يعلو صوت صادح لشيخ يهتف في خطبة سياسية ممنوعة ..
” يا أخي دع الناس تتحدث .. ما لذي يضيرك إذا تنفس الناس ؟”
يبتسم بخبث ويواصل نفث دخانه ، وطرقات متتابعة على الباب تعلو دون أن يعيرها اهتماماً .
…………………………………..
غربة
تسرب أذان المغرب إلى أذني عبر زجاج السيارة محكم الإغلاق فبدا بعيداً خافتاً كأنه آت من مدينة أخرى ، عبرت بالسيارة البوابة الزجاجية المفتوحة للمنزل ذي الطابق الواحد متبيناً الرؤية بصعوبة مع أشعة الشمس الغاربة . تركت السيارة مفتوحة خلف سيارات كثيرة متكدسة في غير انتظام ، ترجلت سريعاً نحو الدرج ، وجدته ينتظرني على حاجز الدرج العلوي ، صرخ وسط الضوء المحتضر ..
-” أسرع ..أسرع يا شيخ ..”
كان ظله هائل الحجم حقاً ، بث في داخلي الكثير من الرعب . صافحني على حاجز الدرج وقادني عبر باب موارب
-” تأخرت الله يهديك..”
غمغمت بعبارات مبهمة توحي باعتذار ما . دفع الباب و همس لي بصوت خافت ..
-” كما أوصيتك”
صافح عيني نور أصفر متوهج و كشف الباب عن حجرة واسعة لامعة الطلاء ، عارية من الأثاث . شعرت بدفء و نعومة البساط الخضر السميك تحت قدمي ، أطلق هو حمحمة سريعة جعلت عشرات الأزواج من الأعين تلتفت إلينا للحظات ثم تعود لتتجاهلنا . كان البياض مسيطراً على الصورة في عيني ، حلقة بيضاوية امتدت على طول الحجرة الكبيرة و قد اكتسى كل أفرادها بثياب بيضاء مكوية تلمع في رشاقة تحت الضوء ، وعمائم تعلو الرؤوس جميعها ، عمائم بيضاء مهولة تمتد فوق الرؤوس طولاً و عرضاً فتمنحها مهابة كبيرة .
منقاداً خلفه سرت إلى طرف بعيد من الحلقة ، لكز بإصبعه ظهر أحدهم فأفسح لي فرجة صغيرة ..جلست القرفصاء حاشراً جسدي بين الأجساد ..أمسكت طرف غترتي و لففتها على وجهي متلثماً و بدأت أصغي إلى همهماتهم ، كان كل واحد منهم يهمهم كمن يسبح بعد فراغه من صلاة ، أصوات خافتة متداخلة لكنني ميزت عبارات من طراز ( محمد- نبي – صلي) بصعوبة شديدة قبل أن يصمتوا فجأة و يلتفتوا جميعاً إلى الطرف البعيد من الحلقة . لاحظت لأول مرة شيخاً أسمر البشرة ، طاعناً في السن ، يرفع كفه اليمنى أمام وجهه كعلامة لطلب الهدوء . ثم و عندما استقر له الأمر بدأ يتحدث بصوت مبحوح لكنه قوي و أخاذ ، وجدته مؤثراً رغم أنني لم أفهم كلمة واحدة و قدرت أن اللغة التي يتحدث بها لغة إفريقية ما ، لكنني رددت كثيراً عبارة ( صلى الله علية وسلم ) خلفه كلما قالها .
صمت الشيخ قليلاً ، أغمض عينيه ورفع رأسه إلى السقف و تنحنح بصوت خافت ثم شرع يقرأ بصوت رخيم
-” يس ، والقرآن الحكيم ، إنك لمن المرسلين …
و أنطلق الجمع كله يردد خلفه بصوت واحد في قراءة جماعية ، شاركتهم القراءة في المقاطع التي أحفظها و اكتفيت بتحريك شفتي في المقاطع التي لا أعرفها ، شعرت بالعرق و قد أخذ يسيل من تحت (كوفيتي) و يتحدر خلف أذني . هدأ الجمع قليلاً فعرفت أنهم فرغوا من القراءة . صمت الشيخ قليلاً ثم عاد ينغم بصوته المبحوح
-” صلى الله على محمد..صلى الله عليه وسلم ..
شعرت بإصبع قوي يغمزني في جنبي و يد سمراء قوية تقبض على كفي اليمنى ، مددت كفي اليسرى فوجدت من يقبض عليها بذات الإتقان . تعالت الأصوات تردد في نفس الإيقاع ، ثم أخذت الرؤوس و الأجساد تتمايل ، شعرت بجسد الجالس إلى يميني يضغط على فخذي حتى آلمتني ركبتي ملت على يساري متحاشياً الضغط على ركبتي ، تكرر الأمر حتى صار أشبه بحركة الكورال المسرحية و ازدادت حماسة الجالسين يرددون الصلاة بسرعة أكبر وصوت أعلى و قد بدأت وجوههم تلمع بالعرق و أخذت نظراتهم تشع بتوهج ملحوظ .. كنت أسمع زفير الجالس إلى جواري يتردد سريعاً ثم يتحول إلى لهاث و كتفه تخبط كتفي في قوة موجعة كلما مال علي ، ثم ينسحب سريعاً ليعود يخبط بقوة أكبر .. أخذت عباراتهم الآن تختلط و تتباين لا يجمعها سوى الإيقاع و انفلتت من حلوقهم آهات و كلمات ممطوطة مترنمة يطلقها كل فرد بالشكل الذي يريد . انزلقت غترتي من فوق رأسي و شعرت بالعرق يبلل رأسي و رقبتي و مفصل ركبتي يكاد ينفجر ، رفع الشيخ يده أخيراً فسكنت الأجساد الثائرة . و كمحرك قديم تعالى هديرهم للحظات قبل أن يسكنوا و تشع وجوههم ببسمات غامضة و ترتخي أكفهم القابضة على أكف بعض . سحبت يدي المبتلتين و مسحتهما على الأرض ، ميزت لأول مرة شرشفاً خفيفاً جداً كسى أرض الحلقة و انحشرت أطرافه تحت الجالسين ، كان دقيقاً لدرجة أنني كدت أمزقه و أنا أدعك يدي فيه لأجففهما من العرق ، رفعت رأسي على لكزة خفيفة من جاري ، رمقني بطرف عينيه و ناولني إناء فضياً كبيراً امتلأ نصفه بالحليب ، تناولت الإناء و قربته من فمي ، ملأت أنفي رائحة حب الهال ، كان بطن الإناء مليئاً بالنقوش و الرسومات الغريبة و قد خط الحليب موجات بيضاء و رسوماً عشوائية على أطرافه نتيجة الرجرجة المتكررة . ناولت الإناء للذي يليني دون أن أتذوقه ، تناوله بلهفة و أخذ يرشف رشفة طويلة نهمة . استغرق الأمر ثلاث دقائق أخرى قبل أن يفرغ الإناء من دورته .
هنا أتى صبي صغير بمبخرة ضخمة تطلق جمراتها الحمراء شعلة لهب متحفزة و وضعها بين يدي الشيخ ثم اختفى سريعاً كما ظهر ، تأمل الشيخ النار و عاد يخطب بلهجته الإفريقية التي لا أعرفها ، لكنه بدا و كأنه يقرعهم أو يعظهم موعظة شديدة . مد يده إلى الجمرات و رفع احدها بإصبعين من يده العارية ، كأنما يرفع حبة زيتون شهية ليتناولها في الإفطار ، قربها من وجهه وزعق بشدة أرعبتني و تمتم الجالس إلى جواري بكلمة ميزت منها ..( الله ..رحمن ) . نفخ الشيخ في الجمرة الحمراء ثم أعادها إلى المبخرة ، دعك إصبعيه قليلاً لينفض عنها ما علق من رماد . و أخرج من جيبه عوداً خشبياً صغيراً و ضعه على النار فتعالى دخان كثيف ، أشار إلى من يليه …مرت المبخرة من أمامي سريعاً ، لفحني دخان له رائحة زيتية كثيفة ونفاذة أصابتني بالغثيان ، صفق الشيخ بيديه بعد أن عادت المبخرة إليه ثم نهض . غاص مرفق الجالس إلى جواري يساري في بطني و هو يقوم سريعاً دون أن يشعر بوجودي ، كانوا يسرعون للحاق بالشيخ لتقبيل يده و رأسه . لم أستطع تحريك قدمي مباشرة ، كان الخدر و الألم يمتدان من فخذي حتى ربلة ساقي و يشلانّي تماماً وبجهد فائق استطعت أن أفردهما أمامي .
أقبل الصبي الصغير حامل المبخرة ، لملم الشرشف الرقيق بمهارة ثم طواه على هيئة مربع صغير و أخرج مقصاً من جيبه و شرع يقصه قطعاً صغيرة متقاربة في الحجم ، التف حوله الحاضرون و شرع يناول كل واحد منهم مزقة صغيرة . نهضت متثاقلاً و اقتربت منه ، نظر في عيني مباشرة و ناولني قطعتين بدلاً من واحدة ، وضعهما في كفي و ثنى أصابعي فوقها ، ابتسمت في امتنان و توجهت إلى الباب .
كان الظل الضخم يقف في انتظاري
-” تقبل الله يا شيخ”
وقفت في الممر و أخذت أعدل من هندامي، ساويت طرفي غترتي التي تلفت تماماً ، نفضت طرفيها حول وجهي ، فاحت رائحة العرق و البخور الثقيل ، دوار خفيف و غثيان متزايد بدأ يغشاني .. طويت طرفي الغترة إلى الوراء ، مددت يدي إلى جيبي و ناولته ورقة مالية كبيرة ، تناولها في وقار و هو يردد
-” بالشفاء إن شاء الله يا شيخ ..”
أسرعت نازلاً الدرج و أنا أتحسس القماش الرقيق في حرص داخل جيبي و أبحث في لهفة عن سيارتي التي اختفت في الظلام .
28/9/2001م
……………………………..
العابرون
كلهم كانوا هنا …
لا تذكر أحداً منهم ..تتشابه ملامحهم ..كأنهم طيف واحد كبير متصل ..
قطرات متداخلة من نهر طويل .. يبدو عكراً و ماكراً لدرجة أنه لا يسمح لك بمعرفة اتجاهه .
….
….
كانوا يهمسون بغموض. أو يهمهمون باهتمام.أو ينادون بصوت عال..
أو ربما يقهقهون بانتشاء ..
لا تكاد تعرف ..
بمجرد أن تتسع فتحات أفواههم تتداخل ملامحهم .. و تذوب وجوههم ..
و دائماً ..دائماً …
لا تسمع أصواتهم ..
…
…
لا يحبون الضوء ..
ينفرون من مصابيح النيون الفاقعة .. تعرف ذلك من التقطيبة العريضة التي ترتسم على جباههم مجتمعة ، و من زيادة شفافية لونهم و ميلانها للزرقة . تكاد تشعر أنك ترى من خلالهم أشعة الضوء الزرقاء و هي تعبر
يبدون أكثر ارتياحاً مع الضوء الأصفر الخافت الذي يصدر من مصباح مكتبك الصغير . يعطيهم أشكالاً أكثر توهجاً ، و يكادون يصبحون مكتملي الأبعاد . تخدعك الإضاءة الخافتة و عينك المتواطئة أحياناً ، فتندفع لتصافح أحدهم .. تتدارك نفسك سريعاً عندما تخترق يدك الفراغ و تقبض على قليل من البرودة ..تتراجع سريعاً قبل أن يلمحك و يبتسم بتحديقة ساخرة .
….
….
ثمانية أو عشرة..أو أحد عشر
لم تنجح يوماً في عدهم ، كلما اعتقدت أنك أوشكت على عدهم راوغوك
و أعادوا ترتيب وقوفهم /تحليقهم من حولك . يخفضون نظراتهم إلى الأسفل كي لا تلمح تواطؤهم عليك ..أو ربما سخريتهم من محاولاتك المستميتة في فصلهم و تصنيفهم كأفراد .
وحدها تلك المضايقات الصغيرة فقط ما كان يزعجك ، و باستثناء ذلك فأنت تحبهم ..تحبهم بشدة .
تحب طريقة دخولهم عليك في خلوتك ..تذكرك بالشبح الأبيض في أفلام الكرتون ، ينسلون واحداً تلو الآخر من النافذة كفقاعات الصابون .. تلمح الإلتماعة الخفيفة في زجاج النافذة ثم صوت الأزيز الخفيض .. ثم يظهر الخيال الأول مصحوباً ببرودة خفيفة في جو الغرفة .
يدخل مبتسماً .. دائماً ما يكون الأول أكثرهم إشراقاً ..كأنه مبتهج بلقائك ، يتقاطرون خلفه سريعاً .. و سرعان ما يتداخلون فلا تكاد تعرفهم . فشلت كل محاولاتك في تمييز ملامحهم أو منحهم أسماء و هويّات ، يصرون دائماً على أن يكونوا واحداً رغم أنك واثق أن لكل واحد منهم ما يميزه ،
خبرة خاصة و ذكاء خاص و كأنه خلاصة سلالات طويلة من الفلاسفة
والشعراء والمتيمين . و ربما الصعاليك و اللصوص و المطاردين . كل واحد منهم قطرة مميزة من عطر خاص يحتوي روح آلاف الزهرات .
يتقاطرون سريعاً …
يتحلقون حول طاولة الطعام الصغيرة .. يحدقون في الحافظة الزجاجية الموضوعة فوقها بدهشة كبيرة لا تنتهي .كل مرة بذات الدهشة يتأملون حبات الحلوى الملونة داخلها كأنها أسماك زينة يراقبها أطفال منبهرون
تفكر في دعوتهم لتناول بعضها لكنك تتراجع ، يرفعون نظراتهم إليك كأنهم فهموا ما تنوي ، تشتم في الجو تلك الموجة من البهجة التي لا تستطيع تفسيرها سوى بأنهم يضحكون .
يتحلقون حول الطاولة .. لا يستخدمون الكراسي القليلة و لا يحاولون إزاحتها . تنضم إليهم سريعاً .. تندمج في التحديق البوهيمي في الحافظة و تشعر بالأفكار تنهمر داخل عقلك . شلالات من الموضوعات التي لم تقرا و لم تسمع بها من قبل .
يتوهج أوسطهم و يحدثك عن بناء الهرم الأكبر و كيف خط السحرة خطوطه الأولى على الرمال و يصف لك بالتفصيل أشكال الأدوات الهندسية التي استخدموها و يهمس لك بأسرار البناء التي حيرت العالم ..
تسمع كل شيء داخل عقلك ..تفهمه بسلاسة كأنك من قام بالعمل وحدك .. يتنحنح الآخر .. يحدثك عن بلاد بعيدة أهلها أشرار محاصرون بسور عظيم يوشك أن ينهار .. و إذا تمكنوا من هدمه فستكون نهاية العالم ..ترى كل شيء بوضوح..تراهم قصار القامة ، بارزوا النواجذ ، ضيقوا العيون يتدافعون خلف سور حديدي عظيم ممتد مد البصر .
تنقطع الصورة فجأة و يختفي الجمع ..تتضاءل الأرض لتصبح نقطة صغيرة جداً ، و يبدأ الآخر في الحكي، يحدثك عن السكينة و الحب و الجمال و وحدة الكون .. يتردد معنى أقرب إلى الشعر في ذهنك بأنك جرم صغير فيه ينطوى العالم الأكبر .. لا يقولون الشعر صراحة لكنك تستطيع أن تلتقطه بسهولة من المعاني التي حشدوك بها .
يلتقط الأخير طرف الوحي .. يهبط بك إلى الأرض .. لكنها أرض غير الأرض و سماء غير السماء .. و قلبك يخفق كما لم يخفق لحبيبة من قبل .. و روحك هائمة حول امرأة لا تعرف من هي .. لكنك تكاد تقسم أن السماء لم تخلق إلا لتظلها و الرمال إلا لتصافح خطوها ..و أن روحك تقترب نحوها .. و من بعيد تلمح خيمتها .. و فرسا شهباء مربوطة ببابها فتوقن أنها الجنة و أنك هالك لا محالة دونها .. وأن أسمى أمانيك نظرة شاردة منها و أن الكون كل الكون لو اجتمع الآن ليصدك عنها ما استطاع و كأنما اجتمع في شخصك قيس و جميل و عنترة و كل عشاق الأرض الذين لم يسمع بهم بشر ..لكن الصورة تعود لتخبو .. و تجد نفسك محلقا من بعيد و تتضاءل الجنة الموعودة حتى تصبح مجرد التماعة على سطح زجاج الحافظة و قلبك لا يكف عن الغليان .
تسألهم خيمة من تلك ؟و في أي بلد كنت؟و..و…و.
لكنهم نادراً ما يجيبون يتبادلون النظرات و يتابعون الحديث . فقط عندما يشعرون بحرارة شديدة داخل جمجمتك يدركون أن سؤالك ملح فيعطونك إجابة مراوغة في أغلب الوقت كي تهدأ و يتابعون الحديث…
لا يوقفهم إلا دخول الفجر .. يتوترون مع احمرار الأفق يبدؤون في التململ
تبدأ الصور بالتداخل داخل مخك .. ثم يداهمك النعاس ..نعاس لذيذ لا يقاوم
تراهم تيداخلون أمام عينيك ، تنضم أجسادهم إلى بعضها حتى تصبح واحداً يمضي/يمضون خلف ظهرك ..و لا تقوى على الالتفات لمشاهدتهم ينصرفون .
…
…
تشعر بآلام طاحنة في رقبتك و قد نمت لساعات طويلة على الطاولة . لكنك تشعر بنشوة غامضة. تنطلق مباشرة إلى مكتبك و تمارس الكتابة ..كتابة سهلة و منطلقة لا تعرف كيف تداعت بهذه السهولة ، يتوقفون عن زيارتك حتى تنتهي من الكتابة .. يغيبون أسبوعاً أو أسبوعين ثم يعودون ..بذات الطريقة و بذات الإشراق على محيا أولهم .
..
..
لكنهم تأخروا هذه المرة ..
تجلس محدقاً في الطاولة و الحافظة الشفافة و الحلوى التي بداخلها حتى الصباح..دون أن يأتي أحد
تحاول استدعاءهم ..تخيل جلساتهم ..تذكر ملامحهم و دعاباتهم الطريفة ، قهقهاتهم الصامتة لكنك تفشل .
تبدأ بعد فترة في الحديث عنهم عند زوجتك لكن نظراتها الحادة نحوك تمنعك من المتابعة .
تفكر في السؤال عنهم ..في القراءة عن ظاهرتهم ..في زيارة الأماكن التي حدثوك عنها ..لكنك لا تفعل شيئاً .
تعرف أنهم لا يكترثون .. وأنهم لا يهتمون بأحد سواك.. وأنهم إن عادوا سيعودون من أجلك
و أنت لا تيأس ..
في كل ليلة ..تطفئ أضواء النيون ..
تشعل المصباح الخافت …
تعد حبات الحلوى داخل الحافظة الزجاجية ..لا تمسها و لا تسمح لأحد بالاقتراب منها .. و تظل تحدق في النافذة مترقباً تلك الالتماعة الخفيفة
و الاهتزاز الصامت
موقنا بأنهم لابد…..عائدون
24/1/1428هـ