قراءة في كتاب الاستشراق بين سطوة المؤسسة وسلطة المعرفة: بحث في فكر إدوارد
سعيد، لـ د. أحمد خولي
آمنة خالد
عندما يقررُ باحثٌ جادٌّ في اللسانيّات وتحليلِ الخطاب الكتابةَ في موضوعٍ يتصلُّ بحقلٍ معرفيٍّ -صعب التحديد-، كالاستشراق مثلا؛ فإن النتيجة ستكون رائعة، ناهيك عن النظريات اللسانيّة والاجتماعيّة التي سيَّقها الباحثُ في مفهوم الاستشراق عند إدوَرْد سعيد. كما أنّ نهجَ الكتابة عند الباحثِ يتخِّذ طابعا علميّا مذهلا؛ يقومُ على الاستزادة المعرفيّة. ولا غرابةَ أنّ الباحثَ حازَ بدراسته المائزة على جائزة إدوَرْد سعيد في الفكر التنويريّ المعاصر ونقدِ الفكر الاستشراقيّ.
أعتقدُ أنّ كتابَ الباحث الأكاديميّ، د. أحمد خولي مفيدٌ جدا لدارس الإنسانيّات، حيثُ يعطي مقدّمة جيّدةً لفهم الاستشراق عند إدوَرْد سعيد، وعرضِ منهجيّاته ودراسته للاستشراق، اعتمادا على أدوات المفكِّر الفرنسي ميشيل فوكو، ونظريات لسانيّة اجتماعيّة، منها نظريّةُ الخطاب وتحليل الخطاب، وذلك -بوصف الاستشراق خطابا-، واشتباك الأخير بعلاقات المعرفة والسلطة.
بدايةً، ينبغي أن نعرفَ أنّ سعيدا ألّف كتابَه العُمدة الاستشراق (1978م) عندما كان في نيويورك، فقد كان يسمعُ بصورة العربيّ في الولايات المتحدة الأمريكية بعد هزيمة حزيران (1967م)؛ الأمر الذي دفعه إلى نقدِ الشرق المتخيّل الذي صنعه الغرب الأوروبيّ؛ ولا يخفى علينا أن كتاب الاستشراق وضعه سعيدٌ في ظلِّ نظام دوليٍّ ثنائي القطبيّة (تحكمه: بريطانيا وفرنسا) أي: في مرحلة ما قبل الاستشراق الأمريكيّ، فضلا عن التغيرات السياسية والمعلوماتية الأخرى التي حدثت لاحقا.
يتناولُ الباحث في مؤلَّفه أربعة فصول، جاءت على النحو الآتي:
الفصلُ الأول: بعض إشكالات الاستشراق الأكاديميّ:
تحدّث فيه الباحثُ عن ثلاثةِ إشكالات رئيسة تواجه الاستشراق الأكاديميّ؛ فكان الإشكال الأوّل:
زئبقيّة هذا التخصص وسعته المفرطة وتوسيع مجاله وتقسيمِه إلى عدِّة فروع في تخصصات متنوِّعة، واستنادِه إلى جغرافيّة ثابتة، لا تراعي الأنساق الاجتماعيّة والثقافيّة والإنسانيّة، فبالنسبة لأمريكا ووسائلها الإعلاميّة؛ مثلا -فترة ما بعد الاستشراق الأمريكي- كانت تنظرُ إلى أفغانستان والعراق 2003م، بوصفهما بلدا واحدا؛ لأنهما يشتركان في كونهما بلدين أصوليين، معاديين للديمقراطية الأمريكيّة…
وأمّا الإشكال الثاني: فقد كان متمَثِّلا في مصطلح سعيد «الجغرافيا المتخيّلة»؛ حيثُ أفادَ سعيدٌ من ذلكم المصطلح من المؤرِّخ الإيطاليّ جامباتستا فيكو الذي يرى أنّ البشرَ يصنعونَ تاريخهم؛ وبالتّالي؛ فإنّ الشرق والغرب حقيقتانِ أنتجهما البشر، ولهما تاريخٌ وفكرٌ، فالشرقُ والغربُ، ينتميان إلى عالمٍ اجتماعيّ ثقافي مؤسساتيّ، لا طبيعيّ مقدّس. وعليه؛ انطلق سعيدٌ من رؤية فيكو إلى إتباع منهجيّة التمييز بين العالم الاجتماعيّ من جهة، والعالم الطبيعي من جهة أخرى.
فعندما تحدّث إدوَرْد سعيد عن تقييدات «الجغرافيا المتخيّلة»، أجرى أستاذنا استقراءاته حولَ منهجِ سعيدٍ؛ للتميَّز بين:
الشرق الحقيقي: بوصفه «واقعا مؤسساتيّا داخليا له ثقافته وأممه وتقاليده، وما ينتجه الأفراد من تصوّرات ذهنيّة مشتركة فيما بينهم»
والشرق المتخيّل: «بوصفه إنتاجا خطابيا استشراقيا تضعه كتابات المستشرقين وتأويلاتهم عن الشرق»، فكلا الشرقين، «يرتبطُ بأفكار الأفراد وتصوّراتهم؛ أي أنهما ذاتيّان من النّاحية الأنطولوجية (الوجودية)»
أيضا؛ لا يمكن أن نقول: إن الخيالَ وحده خلقَ صورة الشرق، غير أن الخيال له سلطة على الخطاب بالضرورة؛ ذكرَ الباحثُ في دراسة له: [سلطة المتخيّل: نحو مقاربة تأويليّة للخطاب، المجلة الدولية للدراسات اللغوية والأدبية العربية، الأردن، المجلد: 01، العدد: 12، 2019] أنّ التخييل موجود في كلِّ خطاب؛ لأن الخيالَ يصنع معانيَ مفتوحةً للتعدد؛ وبذا؛ ينشأ بين المتخيلات صراعٌ، حيث يكون موجِّها للواقع الذي نعيشه، فبالخيال ندركُ الواقع، وننتج تصوّراتنا عنه. وعليه؛ فالشرق المتخيّل الذي صنعه الغرب؛ هو أقوى من سلطة الواقع؛ أي الشرق الحقيقي.
وأما الإشكالُ الأخير؛ الحديثُ عن الاستشراق بوصفه حقلا خطابيا قائما على تشكيل المعرفة وَفْق مبدأ القوّة والتفوِّق الموقعيّ المستمديْن من (بريطانيا، فرنسا، وأمريكا) والمصالح الإمبرياليّة؛ وذلك باعتبارِ الخطاب الاستشراقيّ شكلا من أشكال القوة؛ «لإنتاج حقيقة مُؤدلجة».
الفصلُ الثاني: رؤية إدوارد سعيد للاستشراق والثقافات وأسلوبه المنهجيّ:
ينظرُ سعيد إلى الاستشراق بوصفه قوّةً ثقافيّة أنتجها الغربُ في خدمة امبراطوريّته؛ لتوطيد نفوذها ومصالحها الإمبرياليّة في الشرق، باعتبار تلكم القوّة قائمةً على الفوقيّة الغربية التي تدعم «فكرة أوروبا»؛ لإنتاج هُويّتها من جهة، والدونيّة الشرقية من جهة أخرى.
كما أن أستاذَنا يرى رؤية سعيدٍ للاستشراق بوصفه خطابا يثبِّتُ الوعي «الجيوسياسي»؛ فليس الاستشراق مجالا سياسيا أو علميا أو اقتصاديا أو جغرافيّا فحسب، بل خطابٌ يتَقَوْلَب مع شتّى أنواع السلطة: السياسية، الفكريّة، الثقافيّة، الأخلاقيّة…
إن سعيدا -حسب رؤية الباحث- «يعد الاستشراق أسلوبا من أساليب الهيمنة؛ لإنتاج المعنى، وذلك لدوْرِه في تشكيل الوجودِ الاجتماعيّ والحفاظ عليه، وتغييره أيضا»
كما أن مفهوم الهيمنة الثقافية عند سعيدٍ، يقومُ على فكرة الهُوية الأوروبيّة التي تتفوّق على جميع الشعوب والثقافات غير الأوروبية.
وبالنسبة للثقافات؛ يحملُ مفهوم الثقافة عند سعيد، دلالتيْن، فالدلالة الأولى تتمثلُ في الأشكال الجمالتيّة التي تقوم على اللَّذة، فالإمبريالية بوصفها ممارسة سياسية، أدّت بالثقافة إلى إنتاج الهيمنة؛ فعند الحديث عن فنّ الرواية مثلا -الذي ظهر في القرن التاسع عشر-، فإن سعيدا يعتبرها عمليّةَ تطبيق سرديٍّ للإمبريالية، ذلك لأن الرواية نموذج استحْواذي هيمَنيّ، يقومُ على السارد الإله؛ الذي تكون فيه الشخوص خاضعة لسلطة السارد. كما نرى عندَ روائيّات جوزيف كونراد، وتشارلز دينكز.
وأمّا الثقافةُ بالدلالة الثانية؛ فيعتبرها الباحثُ بالنسبة لسعيد -شكلا صداميّا ومصدرا للهوية- تشتبكُ بالقضايا السياسية والقومية والعقدية. وحسب رؤية الباحث، فإنّ هذا يجيز لنا إيجاد علاقات خفيّة بين الاستعمار والحركات الأصولية التي نشأت نتيجةَ الاستعمار حيثُ تعتمدُ الحركات الأصوليّة في تحديد هويتها على الكيان الكولونياليّ، وعليه؛ نفهم أنّ الاختلاف بين الهُويات؛ هو ما يحددُ الثقافةَ بشكلها الصدامي، يقول أمارتيا صن: «سياسةُ الهوية هي دائما وبالضرورة، سياسة خلق الاختلاف»
فانسلاخُ الحركاتِ الأصولية عن الاستعمار؛ أدى بالأولى إلى اكتشاف جوهرها وتحديدِ هويتها، يقول سعيد: «فإن تخليص العقل من الكولونيالية يتطلب ابتعادا قاطعا عن إغراء الهويات، والأولويات المنفردة»
إذن؛ وحسب ما يرى الباحثُ، فالثقافاتُ بوصفها منتجاتٍ أيدولوجيةً متخيلة، جعلت سعيدا ينظر إليها على أنها مهجّنة وتعددية.
كيف ذلك؟ إنّ الهويات -بطبيعتها- قائمة على التعدد والاختلاف، -يقول درويش: «فإنّ الهُويّة مفتوحةٌ للتعدد»- كما أن الثقافات داخل الخطاب الاستشراقي؛ خلَقت حضارة غربية تخييلية تقوم على مبدأ القوّة والتفوّق، مقابل حضارة دونيّة شرقيّة تخييلية.
وكما يعتقدُ الباحثُ؛ أنّ التجربة التاريخيّة -التجربة الإمبراطورية الغربية- وتوسعها الإمبرياليّ، حيثُ إن الإمبرياليّة جعلت الثقافات الحديثة وسيلةً لإنتاج هويات متخيّلة لأغراض صداميّة في الغالب؛ هي ما جعلت سعيدا ينظرُ إلى الثقافات بوصفها مهجّنة مولّدة، متخالطة ومتمايزة.
ولفَهم منهجِ سعيد الاستشراقيّ؛ قدّم الباحث ثلاثةَ منهجيّات؛ تساعدُ القارئ على فَهم مقدّمات منهج سعيد في دراسة الاستشراق، وسنجملها في الآتي:
أوّلا؛ النقد الدنيوي (Worldliness criticism):
بوصفه استراتيجيّة تأويليّة، يقومُ على مبدأ وضع النصوص في سياقها التاريخي والاجتماعي والثقافي… وبذا، يقولُ الباحث: «ستجعلُ «دنيوية النصوص» سعيدا يتعاملُ مع نصوص الاستشراق بوصفها لحظاتٍ تاريخيّة وممارسات ثقافيّة، تتفاعلُ مع السياقات السياسية الفكرية التي أنتجتها، وتُمارس فيها على النصوص ومؤلفيها ضغوطاتِ التقاليد والأسلاف والسياسات والمؤسسات والعقائد»
ثانيا؛ تحليلُ السلطة في الاستشراق:
حتّى نفهمَ السلطة عند سعيدٍ؛ علينا أن ندركَ أنّه يناقش جدليّة العلاقة بين سلطتين، هما:
سلطة الاستشراق التاريخية وسلطة الاستشراق الفرديّة/ الشخصيّة. فالسلطة الأولى بتعبير سعيدٍ تشكِّل «موقعا استراتيجيا» تقوم على طريقة وصف موقع المؤلف في أحد النصوص إزاء المادة الشرقية التي يكتبُ عنها.
وأمّا السلطة الثانية، فيعتبرها سعيدٌ «تشكيلا استراتيجيّا» تقومُ على «طريقة تحليل العلاقة بين النصوص والوسيلة التي تتمكن بها مجموعة من النصوص… من اكتساب الصلابة والقوة المرجعية فيما بينها أولا، ثم في الثقافة، بصفة عامة، بعد ذلك»
كما يعرض الباحث في هذا الفصل -جزءا من كتاب سعيد: الثقافة والإمبريالية-، إحدى مقالات ت. إس. إليوت الذي تحدّث عن العلاقة الجدليّة بين الشاعر والتراث.
وباستخدام تعابير سعيدٍ؛ فالباحثُ يرى أن «الموقع الاستراتيجي» يتمثل في الموهبة الفردية للشاعر؛ والتراثُ بما هو «تشكيل استراتيجيٌ»، ومجموعة من النصوص، يكون في حدّ ذاته سلطة تؤثر على الماضي والحاضر. وبذا؛ يقولُ الباحثُ: «فالنصوص بوصفها تراثا ثقافيا، تظلّ فاعلةً عندما تصبح ممارسات ثقافية لا أشياء مكتملة، وهي فاعلة أيضا؛ عندما تشكِّل المعارفَ وتبني الذّوات، وتؤسس العلاقات»
وباستخدام ما يدعوه المؤرِّخ الفرنسيّ ميشيل فوكو بالتشكيلات الخطابية (Formation discursive)، يرى الباحثُ أنّ التشكيلة الخطابية بما هي «مجموع الملفوظات المردودة إلى نظام واحد من القواعد المحددة تاريخيا» فإنّ وظيفتَها التحكم بوضع الملفوظات وكيفية توزيعها، والتحكم بمواقع الذات خدمةً لاستراتيجية محددة.
عطفا على فوكو؛ فإذا كان الفرعُ المعرفي عنده هو أحدُ آليات إنتاج الخطاب؛ فإن الباحث يعتبر الاستشراق فَرعا معرفيا، ذلك لأن سلطة الفرع المعرفي والتي تخضعُ بدورها للقواعد؛ تحددُ ما هو حقيقي؛ إلّا أن الفردَ يمكنه العثور على الحقيقة؛ لكنّها تبقى «غير شرعية»، غير معترف بها؛ لأنها أُنْتِجت خارج قواعد الفرع المعرفيّ.
أخيرا؛ منهجيّة التمثيل (representation):
قبل الحديث عن التمثيل، سأترك ملحوظة الباحث: أنّه رَكّز في هاته المنهجيّة؛ الحديثَ عن التمثيلَ بوصفه ممارسةً خطابيّة؛ لأنه يناقش الاستشراق بوصفه خطابا.
فالتمثيلُ -بوصفه ممارسة خطابية- يعتمدُ على «خلق الصور الذهنية من خلالِ الفن واللغة وغيرهما من المجالات؛ لإنتاج المعنى»
وفي هذا السياق؛ يتحدث الباحثُ عن وظيفة اللغة الأهمّ في التمثيل الخطابي، ألا وهي «التسمية»
فاللغة؛ لا تنسخُ الواقع؛ إنّها نَسَقٌ رمزيٌّ نؤوِّل من خلاله العالم، على حد تعبير رولان بارت.
كما أن «اللغة لا تنتجُ تكويناتٍ (formations) عن الواقع، بل تشوّهات (deformations) عنه»
وبهذا؛ يرى الباحث أن العلاقة بين التمثيل وأداته أي: الخطاب، هي علاقة قائمة على السلطة؛ فالتصورات الذهنية التي ينتجها الخطاب الاستشراقي عن «الشرق الحقيقي»، هي تصوّرات مشوّهة؛ فالشرق صامتٌ عاجزٌ عن تمثيل نفسه، «فلو كان قادرا على تمثيل نفسه لفعل ذلك؛ وما دام غير قادر، فإنّ التمثيل يقوم بالمهمة من أجل الغرب»
بذلك نفهم أن التمثيل في الخطاب الاستشراقيّ، هو تصوّر ذهني يعتمدُ على مرجعية غربيّة سياسيّة مُهيمنة؛ فعندما ينقدُ سعيدٌ الاستشراق؛ فإنه لا ينقده بافتقار المستشرقين إلى منهجيّة البحث العلمي، بل بوصف الاستشراقِ «ممارسةً للسيادة والقوة والثقافية»، ويلفتُ الباحثُ انتباهنا إلى سبب عَجْز الشرق أن يولِّد الاستغراب؛ «فالغربي هو الدّارس المعايِنُ، وليس الشرقي إلا مُنفعلا مدروسا مُعايَنا»
وصفَ الباحثُ تمثيلاتِ سعيدٍ للخطاب الاستشراقيّ، بأنّه «اسْتقراها»؛ ذلك لأنّ الأوّلَ يرى أنّ الاستقراء يقومُ على طبيعة الاستدلال القائمِ على التعميم، والمرتهنِ بالضرورة، بالسياق التاريخي. أي؛ بمنهجيّة النقد الدنيوي؛ كما أنّ تلكم التمثيلات ينطلق منها سعيدٌ في تحديد نهج كتابه الاستشراق، فالباحثُ عرّفنا إلى مسألة هامّة هنا؛ أنّ التمثيلات التي أتى بها سعيد؛ لا تخضعُ لعامل الزمن، فهي ليست تمثيلات ثابتة أو موحدة، ذلك أنّ سعيدا أجرى تمثيلاته في سبعينيات القرن الماضي؛ أي في سياق سياسي مغاير للسياسات التي حدثَتْ لاحقا، ناهيك عن التغيرات العالمية، والتطور الذي واكبَ العالم من ثورة تكنولوجية ورقْميّة…
بعد ذلك؛ ينتقل الباحثُ إلى التمييز بين ظاهرتيْن تتعلقان بمَوْقع التّمثيل: فكانت الظاهرة الأولى تتعلقُ بـ «المستشرقين الجدد» أو «المضادون للاستشراق» أو «دراسات التابع»، الذين ينتجون المعرفة عن الشرق من موقع خارجيّ (الغرب)، وليس من موقع داخلي (الشرق). وبلغةِ آلان روسيون؛ فإن المضادون للاستشراق يقدِّمون النصائح للذرى القيادية الغربية؛ لأجل الهيمنة على المجتمعات الشرقية؛ كما أن «المضادون للاستشراق» يقدِّمون صورة (معرفة) عن الشرق؛ «بتنصيب أنفسهم متحدِّثين رسميين باسم القضايا الشرقيّة»
وفي هذا، يرى الباحثُ أن روسيون يطرحُ إشكالا هامّا وهو «إشكال التمثيل الذاتي»، الذي يمثِّله الباحثُ بسؤال المفكِّرة الهنديّة غاياتري سبيفاك: «هل يستطيعُ التابع أن يتحدّث؟»، فالشعوبُ المستعمَرة ينبغي ألا يُسمع منها، فحديثُ التابع -بإعطاء تصوّراته عن العالم الأوروبيّ- هو شكل من أشكال المقاومة؛ ولعل هذا ما يعنيه سعيد في حديثه عن العلاقة بين المستعمِر ومقاومته، بمصطلح الطباق.
وبذاك السؤال ينتقلُ بنا الباحثُ إلى الحديث عن مفهوم الأنسنيّة (Humanism) عند سعيد؛ فالأنسنيّة بما هو مذهب ٌ فكريّ جاء في عصر التّنوير للإعلاء من شأن الإنسان؛ يعتبره سعيد ممارسةً نقديّة تعملُ على: تفكيك المركزية الأوروبية من الأنسنيّة لتحريرها، والالتزامِ بالقضايا العادلة؛ كالقضية الفلسطينيّة، وحقوق الشعب الفلسطيني؛ على حدِّ تعبير الباحث.
وأمّا الظاهرة الثانية، فيقدّمها الباحث على أنها «نمطٌ جديدٌ من إنتاج المعرفة في الولايات المتحدة الأمريكية في سياق النظام الدولي الجديد، مجرّد من أي تمثيلٍ بالمفهوم التقليدي، وهو ما يتوافق معَ ما يدعوه المفكِّر الإيرانيّ حميد دباشي، بـ: إمبراطوريّة بلا هيمنة» فالمعرفةُ التي تنتجُها الولايات المتحدة الأمريكيّة -حول الإسلام والشرق الأوسط-؛ أصبحت معرفةً سلعيّة تديرها وسائل الإعلام، «مجرَّدة من أيّ صلةٍ بالتمثيل» ولعلّ ما يميِّز إنتاج تلكم المعرفة في مرحلة ما بعد الاستشراق؛ «استعانة الغرب بنخب شرقيّة وأطقم محلية تنهضُ بعبء تقصّي كلّ ما له صلة بالشرق (مَن تدعوهم دراساتُ التابع الرواةَ المحليّين (Native informers)؛ مثل اللبناني: فؤاد عجمي الذي يكتب عن الشرق بالطريقة العنصريّة نفسِها التي يكتب فيها المستشرقونَ عن الشرق القديم».
الفصلُ الثالث: الاستشراق أكاديميّا:
يعرض الباحثُ في هذا الفصل أولا؛ الحديثَ عن المفكِّر وائل حلّاق ورؤيته لسعيد حولَ استخدام الأخيرِ مفاهيمَ فوكو، فحلّاق يدّعي أن سعيدا لم يفهم فوكو -مع أنه يستشهد به- لأن سعيدا لم يحدد الإطارَ التاريخي الذي ظهر فيه الاستشراق.
لكنّ الباحث، يعتقدُ أنّ ادّعاء حلّاق فيه شيءٌ من المجازفة، لأنّ فكر فوكو يُقرأ/ يُفهم في مرحلتيْن:
فالمرحلة الأولى؛ مرحلة الحفريات (الأركيولوجيا): اهتم بها فوكو بالوصف البنيوي الذي يقومُ على نسق من قواعد محددة تاريخيا، تتحكمُ بها الممارسةُ الخطابية في فترة زمنية بعينِها، وهو بذلك؛ يتبنّى مفهومَ الانفصال.
والمرحلة الثانية، مرحلة سرد الأصول والأنساب (الجينالوجيا): ينتقلُ فيها فوكو من الوصف إلى التأويل (مُشكل المعنى) عبرَ تحديد وظيفة الخطاب في المجتمع، وعلاقته مع السلطة وتحليل الخطاب، ودراسة أصول الممارسات الخطابيّة وغير الخطابيّة، وملاحظتها عن طريق الانفصالات والتكرارات والانقطاعات التي حدثت عبرَ الحقب التاريخية القديمة.
وخِلافا لما أتى به حلّاق؛ يرى الباحث أنّ أطروحةَ سعيد عن الاستشراق يمكن أن تقرأ بوصفها بحثا في (جينالوجيا) الاستشراق؛ وذلك بسردِ أصول التمثيلات الغربية للشرق بدءا من إسخيليوس ومسرحيته الفرس. فالباحثُ يعتقدُ أن مرحلة (الجينالوجيا) عند فوكو هي أقرب إلى الخطاب الاستشراقيّ، لأنّ تلك المرحلة «تبحثُ في الممارسات الخطابية وتِبيان تحوّلاتها وانفصالاتها من خلال تحليل علاقات السلطة… »
عطفا على مرحلة جينالوجيا فوكو، فإن اختلاف تمفصل الخطاب مع كلِّ لحظة، يعودُ إلى كون تلكم اللحظة خاضعةً لسلطة الأعراف الكامنة في المجتمع. فالاستشراق بوصفه خطابا، مرّ بمجموعة من الانفصالات التي أعيد توزيعها وإنتاجها والتي تحكمُ إنتاج المعرفة.
فالشرق والغربُ بوصفهما «علامتيْن» خضعتا لعمليات تثبيتٍ في لحظة تاريخيّة معيّنة؛ أعيد إنتاجهما بمدلول آخر في لحظة تاريخية أخرى؛ وَفقا لاختلاف الظواهر الاجتماعية.
يركِّزُ سعيدٌ على سرديّة مهمة في الاستشراق وهي ما اصطلح عليها بـ «استشراق السيطرة» أي إنتاج المعرفة الكولونيالية عن الشرق؛ ولظهور هذا النوع من الاستشراق في أواخر القرن الثامن عشر، الذي جاء مزامنا مع المشروع الحداثي «التنوير» والتنافس الإمبريالي على الشّرق.
بهذا، يعتقدُ الباحثُ: أن سعيدا اهتم بـ «استشراق السيطرة» -باتخاذه تشكيلةً خطابية- يعودُ إلى اللحظة التاريخية التي عاشها في نيوريوك؛ زمنَ تأليفه كتاب الاستشراق؛ وتأثره بصورة العربي في الولايات المتحدة بعد هزيمة حزيران 1967م.
وباستخدام الانقلاب الأركيولوجيّ عند فوكو، فيمكن القول إنها: المعارف التي جرى الانتقال فيها من التمثيل (أبستيمية العصر الكلاسيكي) إلى التاريخ (أبستيمية عصر التنوير)؛ هذا الانقلاب «أدّى إلى تحرير اللغة والإنسان من ربقةِ التمثيل الذي كان يحدد نمط وجود المعارف في العصر الكلاسيكيّ»
كما يتخذُ مفهوم التشكيلات الخطابية عند فوكو مركزًا محوريّا في مرحلة الحفريات، وعليه؛ «فالاستشراقُ مبحث منظم داخل الثقافة الأوروبية ومؤسسة اجتماعية للتعامل مع الشرق» وبالعودة إلى مشروع التنوير، وعلاقته مع الاستشراق؛ فإنّ الأول حاول أن يحرر الناس من الميتافيزيقا والأساطير بجعل السلطة بيدِ الإنسان وسيادته، أدى إلى سقوطِ التنوير نفسه في الميثولوجيا.
أمّا الخطاب الاستشراقيَّ في القرن التاسع عَشر أو ما يسمّى بعصرِ الاستشراق الذهبيّ؛ الذي اكْتُشفتْ فيه نصوصٌ شرقيّة في عدّة لغات، إضافةً إلى التوسع الاستعماريّ في الشرق الذي ساعدَ على ظهورِ علومٍ جديدة، منها: فقه اللغة، الأنثروبولوجيا، والتشريح المقارن، ولتفاعلِ الاستشراق معَ التيارات الفكريّة في ذلكم القرن: التّاريخانيّة، الماركسيّة، الفرويديّة، العِرقيّة. إلى أن أصبح للاستشراق الأكاديمي مؤسساته وأكاديميّاته، مثل: الجمعيّة الآسيوية، الجمعيّة الملكية، الجمعيّة الاستشراقيّة الأمريكيّة. التي ازدادت بزيادة كراسي الأستاذيّة في الدراسات الشرقيّة. فقد أشار سعيدٌ إلى مستشرقيْن مهمّين، مختلفيْن في منهجهما الاستشراقيّ: سلفستر دوساسي وارنست رينان:
فأما الأول، فقد اتّبع طريقة الاقتطاف (Extract) في تدريس النصوص الشرقيّة لطلّابه، وبكونه معلّما متميِّزا، وله أساليبه المنهجية في التدريس، فقد قرَّب الشّرق إلى طلابه بعد أن كان الشرق بعيدا غريبا؛ فنصٌ واحدٌ شرقيٌ يعرضه دوساسي على طلابه، ويعلِّق عليه شارحا معالجا ومقنِّنا، متجاهلا الظروف التاريخية والزمنية التي قيلت فيه، فيجعلُ ذاك النص ممثلا كليّا عن الشرقِ.
وأما الأخير –العالم الفيلولوجيّ رينان-، فاتخذ من مختبره العِرقي؛ منبرا للاستشراق، إذ إنه جعل العرق (السّامي) الذي ينتمي إليه الشرق، قاصرا على إنتاج الفلسفة، واسما وعيهم بضائقيّة الأفق والجمود.
وبالحديثِ عن الاستشراق في القرن العشرين؛ علينا أن ندرك التغيرات التاريخية والسياسية والمعلوماتية والمؤسساتية التي حدثت في ذلك القرن، والتي عرضها الباحثُ كالآتي:
أن الغرب أصبح أمام شرقٍ جديد يطالبُ باستقلال كيانه؛ وهذا الأمر سيُحرِج المعرفة الاستشراقيّة، ويجعلها تبحث عن أساليب جديدة لدراسة الشرق.
إضافة إلى أفول الإمبراطوريتيْن: (فرنسا وبريطانيا) وظهورِ الولايات المتحدة، وإنتاج معرفة جديدة عن الشرق، دُعيت بدراسات المناطق (Area studies) بوصفها منظومةً استخباراتيّة لرَصْد منافسي الإمبرياليّة الأمريكية في مرحلةِ الحرب الباردة. ومع بداية الحرب العالمية الأولى “سيواجه العالم الغربي تقلّص سلطانه على العالم” فدفع ذلك المستشرقين إلى وضع تعريف ثقافي للذّات.
فميدان الاستشراق الذي كان قائما على الفيلولوجيا، سيتحوّل إلى تخصصٍ في العلوم الاجتماعيّة؛ حيث طغتِ الأخيرة على الأدب؛ وذلك، لإبقاء الشرق العربي الإسلامي وساكنيه لا مُؤنْسَنين، فالمستشرق برنارد لويس يدّعي أن المسلمين متخلفون ومدمنون على الأساطير…
كما أن الصهيونيّة ستنشئ كيانها المزعوم في فلسطين، حيث تكون الأولى محالفة للإمبريالية الغربيّة في الشرق، مع الإفادة من الخطاب الاستشراقيّ والدراسات التوراتية -التي كانت سببا في نشوء إسرائيل منذ القرن التاسع عشر- في مواجهتها الآخر (الفلسطينيّ)، «حيثُ كان يجري البحثُ عن وسيلة لاختلاق إسرائيل القديمة مقابل إسكات التاريخ الفلسطيني القديم وعدم السماح له بالوجود» فيليب ديڤيس يرى أن إسرائيل القديمة من اختراع عقول العلماء، وحتى نفهم ذلك، سيعتمد الباحث على تحليل الخطاب المعرفي وليكن خطاب الدراسات التوراتية وعلاقته بالسلطة والمعرفة.
أخيرا؛ سيتحول الاستشراق الأكاديمي إلى معرفة سلعية تنتجها الولايات المتحدة ووسائل إعلامها عن الشرق والإسلام، وتشويههما، بوصفهما خطرا يهدد كيانها؛ باتّباع استراتيجيّة صناعة الخوف -كما يسمّيها الباحث-، ففي عهد الرئيس الأمريكي كارتر، كان الإعلام الأمريكي يرسم صورةً معاديةً للإيرانيين والإسلام، ويحوِّلُها إلى رأس مال سياسي له في عام الانتخابات الأمريكيّة.
الفصل الرابع: اشتباك المعرفة بالسلطة داخل خطاب الاستشراق:
كان الفصل الرابع بالنسبة لي؛ الأعقدُ؛ وذلك لاحتوائه على نظريات لسانية اجتماعيّة تتعلّق بالخطاب، وتحليل الخطاب، إلا أنّ الأفكار التي سيَّقها الباحثُ زالت الإبهام الذي توهمتُه بدايةً.
يقفُ الباحثُ على نظرية الخطاب -بما هي ظاهرة اجتماعية وخطابيّة- لدى إرنستو لاكلاو وشانتال موف؛ بطرح مقاربةٍ تأويليّة لقول رينان: «ويكونُ التمثالُ المصري الجامد اللاصقة يداه بالرُّكبتيْن سابقا لازما للتمثال الإغريقيِّ ذي الحيوية والحركة» وبلغة الباحث؛ بما أن المستشرق رينان يقيمُ روابطَ بين اللغة والأعراق، فإن خطابه السابق يتكِّئ على الشرق بوصفه مَعْقِدا (دالّا مُتغيِّرا)؛ فالتمثالُ المصري والتمثال الإغريقيّ؛ عنصران فارغا الدلالة قبلَ أن يُمَفصلهما الخطاب، فالتمثال الأول يحيلُ على الشرق، والتمثال الأخير يحيلُ على الغرب، بذا؛ نرى أن الصراع الخطابيّ (Discoursive struggle) هو صراعٌ لتكوين المعنى، المنتجِ للذّوات والهويّات.
وعند حديث الباحثِ عن نظرية تحليل الخطاب عند نورمان فيركلَف؛ واعتمادا على أداوتِه؛ بدأ الباحثُ بتطبيق أولى مراحل تحليل الخطاب؛ ألا وهي الوصف:
فأدرجَ الباحثُ صورةً؛ لـ «لافتةٌ تحذيرية تضعها إسرائيل على حواجزها العسكرية في الضفة الغربية عند مداخل الطرق المؤديّة إلى مناطق «أ» التابعةِ لحكم السلطة الفلسطينية، بموجب اتّفاق أوسلو الانتقالي 1993م»
نلحظُ أنَّ لون اللافتة يحملُ دلالة قصديّة، باللون الأحمر؛ باعتبارها «لافتة تحذيريّة»
كما أنّ اللافتة؛ قد احتوت على ثلاثةِ نصوص، تبدأُ بالنص العبريّ، يليه النصّ العربيّ، ثم النصّ الإنجليزيّ. يخبرنا الباحثُ أنّ اللافتةَ -بالنصوص الثلاثة- تحملُ للمتلقي الإرساليّة نفسها: (تحذيرُ المواطنيين الإسرائيليين من دخول مناطق (أ) التابعة للسلطة الفلسطينيّة)؛ ومن ثمَّ تفترضُ اللافتة أن المتلقي واحدٌ، «المواطن الإسرائيليّ».
فالنص العبريّ، يمثّل سلطةً خطابية في اللافتة؛ والنصّان: العربي والإنجليزيّ، هما ترجمة حرفيّة للنص العبريّ. كما لاحظ الباحث أن النصيْن: العربي والإنجليزي يحتويان على أخطاء لغويّة، منها: قضية اختلاف التذكير والتأنيث للمصدر اللغوي بين العربية والعبريّة. ففي النص العربي نجدُ: «الدخول للمواطنين الإسرائيليين ممنوعة، وخطرة، على حياتهم، وتشكِّل…» في العبريّة يكون لفظ «الدخول» وتعني بالعبريّة (כניסה): مؤنّثا لا مذكَّرا كما في العربيّة.
ويحاجُّ الباحثُ أيضا بِعَقْدِه مقارنةً لسانيّة بين النصوص الثلاثة؛ أنّ موقع المتلقي ليس واحدا -كما افترضَ سابقا- أي أن النصوص ليست موجهة جميعها إلى «المواطن الإسرائيلي». ففي النص العبريّ؛ يُحدد موقع المتلقي بضمير المخاطب في صيغة الجمع، «دخولُ المناطق التابعة للسلطة الفلسطينية خطرٌ على حياتكم»، «حياتكم»، وتعني بالعبريّة: (חייכם) ومثل ذلك في النصّ الإنجليزيّ حيثُ يحدد موقع المتلقي بضمير المخاطب «Your Lives» لكن؛ النص العربي سنجده يحدد موقع المتلقي بضمير الغائب: «الدخول للمواطنين الإسرائيليين ممنوعة وخطرة على حياتهم…»
والتفاتا إلى علامات الترقيم، والتي يعتبرها الباحثُ علاماتٍ ليست بالبريئة، نجدُ في النّص العبري الرمز A للإحالة على المناطق التابعة للسلطة الفلسطينية بموجب اتفاق أوسلو الانتقالي بلا قوسين. أما في النص العربي فنجد الرّمز (أ) بقوسين، والقوسين «رمزٌ يعني بأن ما يقع بينه يحيل على شيء محاصر، يثيرُ إشكالاتٍ، وخلافاتٍ بين الخصوم»
وانتقالا إلى المرحلة الثانية؛ مرحلة التأويل/ التفسير؛ يرى الباحثُ أنّ النّص العبري في أعلى اللافتة؛ يحدد للمتلقي الإسرائيليّ العلاقة التي ينبغي له اتباعها مع الفلسطينيين، فوصفُ اللافتة أن الأراضي الفلسطينية التابعةِ للسلطة بالمناطق الخطرة؛ يحيلُ الباحث إلى أن تلكم المناطق هي «مدن أشباح» أو «حدائق حيوانات مفترسة» بالتالي؛ يكون الفلسطينيّ مصاص دماء، أو متوحشا.
فالنظرة الدونيّة التي ينتجها المستعمِر عن الفلسطينيين، يرى الباحثُ أنها ظاهرةٌ لا تقتصرُ على الاستعمار الإسرائيلي فحسب، وإنما على بلدان العالم الثالث، التي خضعت للاستعمار ما أدّى إلى انْتشار النظرة الدونية عن مواطنيها، وهذا ما أسهمتْ به المعرفةُ الاستشراقيّة.
ووصولا إلى المرحلة الأخيرة؛ مرحلة الشرح، فيرى الباحثُ أنها ممارسة اجتماعية، تُحافظُ على شكل الوجود الاستعماريّ لإسرائيل في المناطق المحتلة 1967م، وذلك من خلال توزيع أيدولوجية إسرائيل الاستعمارية عبرَ النصوص، للحفاظ على الخطاب الاستعماريّ الذي يُعدُّ جزءا من نظامها الاستعماريّ الكُليّ.
بذا؛ يمكنُ أن نعتبرَ اللافتة تحددُ الخطاب بوصفه خطابا استشراقيّا، يقوم على مركزيّة الإسرائيليين، وهامشيّة الفلسطينيين.
وحتّى نفهم كنهَ الاستشراق بوصفه خطابا؛ عند سعيدٍ؛ ينتقل الباحث بعد ذلك؛ إلى الحديث عن مفهومين مركزيين عند المفكِّر الفرنسي ميشيل فوكو وهما: السلطة ونظام الخطاب.
يتخِّذُ مفهومُ السلطة عند فوكو محورا أساسيا في فكره؛ فهو يرى أن السلطة موجودة في كل مكان، كما أنها مُنتجةٌ، للواقع الحقيقيّ، ولمجالات من الموضوعات، والذي ينتج ذلك؛ الفرد والمعرفة.
وفي هذا؛ يشيرُ الباحث إلى مفهوم فوكو: ميكروفيزياء السلطة (mi-crophysique du pouvoir) بوصفها أداة موزّعة على الجسد الاجتماعيّ كله، وبالحديث عن المقاومة عند فوكو، فإنّه يرفضُ وجودها خارج السلطة، ويرى أنها طرفٌ آخر للعلاقات السلطوية، وبكون المقاومة منتشرةً في الجسد الاجتماعيّ وموجودةً في كلِّ مكان -عند فوكو-، اصطلح عليها الباحثُ ميكروفيزياء المقاومة، «وهي التي جعلت غير الأوروبي ذاتا قادرة على إنتاج سرديّاتها وعلى الفعل المُقاوِم»
وبالمُقابل، يرى الباحثُ أن المقاومة عند سعيد موجودةٌ خارج علاقات السلطة، وذلك باعتماد سعيد على القراءة الطباقية، التي فكك بها الاستعمارَ وسرديّاتِه.
يستأنف الباحث حديثَه عن العلاقة بين المعرفة والسلطة؛ بكونها علاقةً زمنيّة تحدثُ في لحظة تاريخية محددة، حيث عرَفنا أن المعرفة التي أنتجها الخطاب الاستشراقيّ، كانت مبررا لاستعمار الشرق والسيطرة عليه، وبهذا يكون «تصوّر الخطاب موقعا للتَمَفْصل بين السلطة والمعرفة»؛ فالخطاب عند فوكو؛ مكوّنٌ من عناصرَ خطابيّةٍ، تستطيع أن تعملَ في استراتيجيات مختلفة. وعليه يكون الخطاب -بتصوِّرِ الباحث- آليةَ إنتاج في يدي السلطة والمقاومة، ونظامِ الخطاب. بوصف الأخيرِ «أعرافَ الخطاب الكامنة في المجتمع والتي تعملُ على تطبيع (naturalization) الممارسة الخطابية من خلال تنظيم عمليات إنتاج الخطاب»
وبهذا الفهم؛ يمكنُ تحديد نظام الخطاب الاستشراقي؛ بأنّه أعرافُ الخطاب الغربي الكامنة في إنتاج المعرفة عن الشرق. وبما أنّ الخطاب عند فوكو: مراقب، ومنظم ومنتقى ومعاد توزيعه من خلال عدد من الإجراءات التي تحدّ من سلطاته ومخاطره؛ فإن الحديثَ عن تلكم الإجراءات -الخارجيّة- التي يفترضها فوكو في تحديد الخطاب: المَنع، وقسمة الحمق، وإرادة الحقيقة هي إجراءت يضعها فوكو ضمنَ «منظومات الإبعاد التي تمارس بصورة ما من الخارج». كما يحدد فوكو إجراءات أخرى داخليّة تمارس مراقبتها الخاصة في الخطاب، وهي: التعليق، المؤلف، والفروع المعرفية.
ووقوفا على إجراء التعليق، فالباحثُ يراه أهم إجراء حفظ للاستشراق خطابه، بجعل المعرفة -مهما كانت-؛ موجودةً عن الشرق. وأما مبدأ المؤلف باعتباره أداة تجميع للخطاب كما -المستشرق- «يحدّ من صَدفوية الخطاب بوساطة لعبة تحدد للذوات المواقع التي يشغلونها»
وأما الإجراء الدّاخليّ الأخير، مبدأ الفروع المعرفية، فلا يعني أنه «ضمن الحقيقي» دائما، فالمعرفةُ عموما؛ مكونةٌ من حقائقَ وأخطاء، وبالنسبة للاستشراق؛ يقول الباحث: «إن الفرع المعرفي كالاستشراق مثلا، مبدأ لمراقبة عملية إنتاج الخطاب، فهو يعين له حدودا بوساطة لعبة هوية تأخذ عملية بعث دائم للقواعد»